في حياة كل منا رجال لا ننساهم.. من هؤلاء القلة القليلة الأستاذ الدكتور محمد الأحمد الرشيد - رحمه الله رحمة وواسعة، وجعل الفردوس الأعلى من الجنة منزله.
عملت إلى جواره ثلاث سنوات، ما بين عامي 1984 و1987، فقد كان مديراً عاماً لمكتب التربية العربي لدول الخليج، وكنت رئيساً لوحدة المطبوعات والنشر بالمكتب، وسكرتيراً للجنة الدراسات والنشر.
كنت أحمل إليه أوراقي متى رأيت أنها تحتاج إلى اطلاعه، أو أتصل به على (تحويلته) المباشرة إن كان ما أحتاج إليه رأياً شفوياً.. لا أجد في ذلك حرجاً، على الرغم من الفارق الكبير بيننا في المنصب والتأهيل والسن، ولا أظنني بدعاً من زملائي موظفي المكتب؛ فكلنا لم يكن بيننا وبينه حواجز من أي نوع!..
ذات صباح دخلت عليه كالعادة في مكتبه، وكان يبدو عليه القلق.. قال لي:
اجلس يا سعد!
وجلست..
قال لي: هل سبق أن ضربت ابنك؟
كان سؤالاً مباغتاً لي وغير متوقع؟ ولم أدرِ بِمَ أجبته ساعتها.. ولم أدر ما القصد من سؤاله!
لكنه بدد حيرتي حين قال بحرقة: لقد ضربت ابني هذا الصباح!
أستاذ بمكانته التربوية وسموه الفكري يطلب الاستشارة والعون مني أنا الموظف الصغير وقليل التجربة.. لقد ظل هذا الموقف في ذهني طويلاً، لا أدري كيف أفسره، إلى أن اهتديت أخيراً إلى أنه كان يبحث عن مخرج يخفف به عن نفسه اللوامة عنتها، إن سمع أن ما اقترفه بحق ابنه سلوك اعتيادي؛ كل يرتكبه في ساعة غضب!!
فهل أرق من هذا القلب الأبوي؟!
الوقفة الثانية معه - أيضاً - حين كنت في مكتب التربية في تلك الفترة.. كان المكتب يعقد مجلسه التنفيذي في دولة البحرين، وقد سبقني الموفدون من المكتب بسبب مناقشة رسالتي للماجستير ليلة مغادرتهم، ولحقت بهم صباح الغد، وتوجهت من المطار مباشرة إلى مقر الاجتماع، ودخلت القاعة بصمت بعد بضع دقائق من بدء الجلسة الافتتاحية.. ونظر إلي أبو أحمد بعد أن اتخذت مقعدي مبتسماً ومطمئناً لوصولي!..
لكن المفاجأة كانت بعد انفضاض الجلسة، فقد ظل ينتظرني عند باب القاعة ليعانقني ويسألني عن المناقشة والنتيجة والتقدير والحضور، ويعبّر لي عن أسفه لأنه لم يتمكن من الحضور! وحين انتشرنا على موائد مطعم الدبلومات (مقر إقامتنا) لمحني أبو أحمد فاستدعاني للجلوس أمامه، واستكملنا الحديث؛ ليس عن الاجتماع بل عن رسالة الماجستير!! في هذا الحضور الهائل لوكلاء وزارات التربية في الدول الأعضاء ووفودهم المرافقة وفي زحمة العمل وقمة الانشغال لم ينسَ أبو أحمد حدثاً سعيداً لأحد موظفي مكتبه ليشاركه فيه سعادته!
وانتهت فترة إعارتي للمكتب، لكني ظللت على اتصال به، ألتقي به حيناً فحيناً، ولم ألقه مرة إلا وهو يلح في السؤال:
أين أنت يا رجل؟ لِمَ لا نراك؟ «لا تقاطعنا»!
وحين أنشأ - رحمه الله - سبتيته كنت من الحريصين على لقائه كلما سمحت الظروف، واتباعاً للقول المشهور: «زر غبا تزدد حباً»، لكني لا أسلم من التعنيف في كل مرة يستقبلني بحرارته التي يعرفها جميع زواره!
قبل أشهر عدة، وفي إحدى سبتياته، أهديته نسخة من ديواني الأخير «أيقونة شعري»، وفوجئت به ظهر الغد يتصل بي هاتفياً ليشكرني على الإهداء، ويثني على إحدى قصائده التي أعجبته.
كانت القصيدة بعنوان «الممثل»، وفيها نقد للوعاظ الذين يقترفون ما ينهون عنه!
قلت له يا أبا أحمد، هذه القصيدة بالذات كنت متردداً في تثبيتها في الديوان حرجاً من سوء فهم بعض القراء!
قال لي: يا سعد.. لم تَعْدُ الصدق فيما قلت، ومن أراد أن يغضب من الصدق فشأنه!!
وتكرر الشأن في آخر زيارة له في سبتيته قبل وفاته، فقد تصادف أن نشرتْ إحدى قصائدي «الجزيرة الثقافية» ذلك اليوم، وقبل أن أُسلِّم عليه إذا به يقول: قصيدتك رائعة اليوم يا سعد!
رجل في مكانة أبي أحمد وعلو كعبه وانشغاله بمعالي الأمور يقرأ ديواني في اليوم الذي أهديته إياه، ويقرأ قصيدتي في صحيفة سيارة!
كم من الأصدقاء والزملاء قرؤوا دواويني وكتبي، وطالعوا ما أنشر، فلم يدْعُهم ذلك إلى كلمة مدح أو قدح ولو على سبيل المجاملة!!
رحمك الله يا أبا أحمد؛ فمهما قلنا فيك سيظل القول قاصراً!!