نعرف أن لدينا فسادا، فهو مرض طبيعي في كافة الدول، لكننا لا نعرف مقداره ومدى استفحاله دون مقارنة مع ماضينا ومع الآخرين. اليوم التاسع من ديسمبر هو الأفضل لأنه اليوم الدولي لمكافحة الفساد الذي اعتمدته الأمم المتحدة لإذكاء الوعي عن الفساد..
ضمن فعاليات هذا اليوم أقامت أمس جامعة اليمامة بالتعاون مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ورشة عمل بعنوان “دور الإعلام في تعزيز قيم النزاهة ومكافحة الفساد”؛ شارك فيها عدد من الإعلاميين والأكاديميين لمناقشة محاور عدة؛ مثل الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، ودور المؤسسات الإعلامية... ومن بينها ورقة عمل قدمتها عن البيئات التشريعية لوسائل الإعلام في ممارسة أدوارها لمحاربة الفساد.. ناقشت الورقة التشريعات المنظمة للإعلام وممارسة وفهم الوسط الإعلامي لها، وسيستعرض المقالان القادمان -بإذنه تعالى- لأهم ما جاء فيها، وهنا استعراض مقياس حالة الفساد في المملكة..
من الصعوبة وضع قياس محدد ودقيق لواقع الفساد في أي بلد، لكن يمكن اختيار المؤشر العالمي لمنظمة الشفافية الدولية والمؤشر العربي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات. المقياس الأول يستند على أساس كيف يُنظر للفساد في القطاع العام؛ والثاني يستند على الرأي العام تجاه حالة الفساد المالي والإداري كأحد المؤشرات المعيارية التي تساهم في تفسير العلاقة بين المواطنين والدولة، كما أنه يشكل أحد عوامل الثقة في مواجهة الفساد.. الإعلام هنا هو الوسيط!
دأبت منظمة الشفافية الدولية على إصدارها السنوي لمؤشر ملاحظة الفساد (CPI) منذ عام 1995، المؤشر يقوم بوضع درجة من واحد إلى عشرة أو من واحد إلى مائة، ويرتب الدول حسب الأقل فساداً. وتُعرِّف المنظمة الفساد بأنه إساءة استغلال السلطة المؤتمنة من أجل المصلحة الشخصية. يذكر تقرير هذه السنة أن المؤشر هو بمثابة تذكير بأن إساءة استخدام السلطة، والتعاملات السرية والرشوة متواصلة تنهش المجتمعات في جميع أنحاء العالم؛ ومركزاً على تجديد الجهود لاتخاذ إجراءات صارمة ضد غسيل الأموال، وتنظيف المال السياسي، ومتابعة استرداد الأصول المسروقة، وبناء المؤسسات العامة على أسس أكثر شفافية.
ورغم أن المؤشر ليس مقياساً دقيقاً وبه عيوب إلا أنه يفيد في معرفة موقعنا السابق والحالي في الفساد، والمقارنة بينهما لنتصور مدى التقدم أو التأخر في مكافحة الفساد؛ إضافة للمقارنة مع الآخرين. ولو علمنا مقارنة في الدرجة التي حصلت عليها السعودية في المؤشر خلال عشر سنوات نجد أن درجتها بالمؤشر تتحسن ببطء من معدل 3.4 درجة خلال الفترة 2004-2007 إلى 3.8 درجة عام 2008، وارتفع إلى 4.3 عام 2009 ثم 4.7 درجة عام 2010 وظل تقريباً على نفس الوتيرة خلال الأعوام اللاحقة حتى هذا العام.
أما بالمقارنة بين الدول العربية لعام 2013 م، نجد أن الإمارات العربية المتحدة وقطر كانتا في المقدمة بـ 69 و 68 درجة من مئة على التوالي، فيما كانت المملكة وبقية دول مجلس التعاون الخليجي والأردن في معدل الأربعينيات. تلاها في الوسط تونس والمغرب والجزائر.. ثم مصر ولبنان، فيما قبع بذيل القائمة العربية والعالمية: اليمن، سوريا، العراق، ليبيا، السودان، الصومال. وتقع المملكة بالترتيب الخامس بين الدول العربية العشرين، والترتيب الثالث والستون عالمياً بين 175 بلدا.
يلاحظ تحسن نسبي بطيء في موقع المملكة على مؤشر الفساد قبل بدء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لأعمالها مما قد يشير إلى تحسن الوعي في التعامل مع قضية الفساد. هذا التحسن قد يكون مرده كثافة تناول موضوع الفساد في الإعلام وارتفاع درجة الثقة بجدية الحكومة في مواجهة الفساد. هذا قد يعني أنه قبل تنفيذ القرار بدأ يتشكل رأي عام وموقف تطبيقي تجاه الفساد. التحسن في حد ذاته إيجابي لكن البطء يعني أن ثمة عراقيل وتحديات عديدة يتعذر حصرها هنا، ومما يعنينا منها هو التحدي الإعلامي في مواجهة الفساد وكشفه الذي سيتناوله المقال القادم.
إذا انتقلنا إلى تقرير “المؤشّر العربي” الذي صدر العام الماضي من مشروع قياس الرأي العام العربي من المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات في الدوحة، وهو يُعتبر أكبر مشروع لقياس الرّأي العامّ العربيّ حاليًّا، وتناول 12 دولة (السعودية، اليمن، العراق، الأردن، فلسطين، لبنان، السودان، مصر، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا)، نجد فقط 55% من الرأي العام العربي يعتقد أن بلدانهم جادة في محاربة الفساد المالي والإداري، مقابل 41% يرون أن حكوماتهم غير جادة. هذه النسبة مقلقة وتغني عن كثير من التحذيرات والمواعظ.
وتقدمت السعودية في اعتقاد الرأي العام فيها أن حكومتها جادة في محاربة الفساد (بنسبة 75%)، ومعها مصر والأردن وموريتانيا، بينما أكثرية مستجيبي الجزائر واليمن والمغرب ولبنان يعتقدون أن حكوماتهم غير جادة. لا شك أن ثقة الرأي العام السعودي بجدية الحكومة هي إيجابية، وهي في نفس الوقت تلقي مسؤولية ثقيلة جداً على إدارة هيئة مكافحة الفساد.
من ناحية الرأي تجاه انتشار الفساد، أوضح التقرير أن 83% من الرّأي العامّ العربيّ يقولون: إنّ الفساد منتشر في بلدانهم. وحصلت السعودية على أقل نسبة في اعتقاد الرأي العام بأن الفساد منتشر بنسبة 54%، بينما بلغت أقصى حدودها في لبنان بنسبة 97%. وترى أكثرية الرأي العام العربي أن أسباب اندلاع الثورتين التونسية والمصرية هي الفساد والديكتاتورية وانتفاء العدل والمساواة.. لذا كان من الطبيعي أن تظهر نتائج التقرير أن أكثرية الرأي العام العربي أيّدت الثورتين المصرية والتونسية.
ويخلص التقرير إلى “إن تقييم الرأي العام السلبي أو الإيجابي المتحفظ لأداء الدولة؛ وتآكل الثقة بين المواطنين ومؤسسات دولهم الرئيسة؛ إضافة إلى سيادة شعور بعدم تطبيق الدولة للقانون؛ وفي ظل انطباع بأن الفساد المالي والإداري واسع الانتشار، كلها عوامل تفضي مجتمعة إلى استخلاص أن الدول العربية تعاني من مأزق لدى مواطنيها.”
نقل معاناة المواطنين تجاه الفساد ورغبتهم في كشفه يتطلب مناقشة التشريعات الإعلامية وتطرقها لموضوع الفساد والفهم والممارسة الصحفية للإعلاميين. يمكن تصور موضوع كشف الفساد إعلامياً كمثلث.. قاعدته التشريع الإعلامي الذي يمنح حق الوصول للمعلومات، وضلعاه: الأول: سلامة مصدر الاتهام إعلامياً (صحة المعلومة) والضوابط الخاصة بكشف الفساد؛ والثاني حقوق الذي يتعرض للاتهام، وهو موضوع المقالتين القادمتين.