الإعلام الناجح بشقيه التقليدي والجديد يفرض مهنيته ومصداقيته بمدى نزاهته وشفافيته وقدرته على التثبت من الحقائق التي تبث من خلاله، ومنها الإنجازات العلمية التي يحققها أبناء الوطن. إلا أن المتتبع لإعلامنا في الآونة الأخيرة يلحظ التسارع المحموم على اعتبار أي بحث ينشر فتحا علميا يخدم البشرية، ويُقدم بشكل مبالغ فيه يغلب عليه الجانب الدعائي عن حقيقة قيمة هذا الإنجاز.
لعلي أذكر ثلاثة أحداث - ربما - توضح ما أصبو إليه:
الأول: إنجاز حققه أحد زملائي - تخصصه فيزياء - وذلك باكتشافه لخطوط داخل المادة لم يسبقه أحد فيه، ولكوني قريبا لتخصصه وعلى ما أنجز، طلبت منه أن ينشره في الإعلام السعودي بصفته إنجازا له، فرفض توجهي بمبررات لم أقتنع بها آنذاك. بعد عدة سنوات ومتابعة ما يُنشر من إنجازات علمية في الإعلام دون ضابط مقنن ذي مرجعية علمية، أيقنت أن زميلي كان على حق على الرغم من قيمة اكتشافه عند المتخصصين والباحثين.
ثانيا: نُشر خبر في إحدى الصحف الإلكترونية المحلية مجملهُ أن أحد الطلبة السعوديين في إحدى الدول الغربية حقق ابتكاراً علمياً سيخدم البشرية وسيسهم في علاج بعض الأمراض المستعصية، وقد كُتب الخبر بأسلوب لا يكاد يفهمه إلا المتخصصون في ذلك المجال. الطريف في الأمر عند العودة إلى ما كُتب عن ذلك الخبر في إعلام تلك الدولة تبين أن الخبر كُتب بمهنية لا توهم القارئ بقيمته، مبتدئاً من عنوان الخبر ومنتهياً بأسلوب الكتابة الواضح للقارئ العادي مستخدماً كلمات توحي بأنه طريق لإنجاز علمي مثلا كلمة (قد) أو (ربما)، وقد نُشر بأسلوب يدل على أن مثل هذه الأخبار لا تنشر إلا بإشراف متخصصين متمرسين إعلامياً يقدر ويحترم عقلية القارئ.
ثالثا: قبل فترة أرسل لي أحد الأصدقاء خبراً منتشراً على نطاق واسع في المواقع الإلكترونية ونشرته إحدى الصحف المحلية عن اكتشاف علمي لـ»عقار» من قبل أحد المواطنين لعلاج مرض معين، وعند الاطلاع على ما كتب اتضح لي انه لم يحصل على المتطلبات الأساسية ليكون مُنجزا يُعتد به، إنما جاء من باب الصدفة ولم تجرَ عليه دراسات عميقة تثبت جدواه على نطاق واسع كما هو متعارف عليه خصوصاً في العقاقير.
ما يُعرف أن الإنجاز العلمي البحثي قيمته عند المتخصصين والباحثين يعرض ويناقش في مؤتمرات وينشر في مجلات علمية متخصصة ليسهم في عجلة البحث العلمي وتطوره، والإنجاز العلمي الحقيقي يعلن من خلال المؤتمرات ومن ثم يبرزه الإعلام بوسائله المختلفة.
نحن لا نشك أن ذكر الإنجازات العلمية بالإعلام لها وقع نفسي ومعنوي للقارئ الكريم، لكن ماذا تعني له واقعياً؟! هل سيجد بعض ما ذُكر يوما ما واقعا ملموسا كمنتج في أرفف الصيدليات أو ورش السيارات أو سوق الاتصالات وتقنية المعلومات، يسهم في تحقيق الأهداف الوطنية التنموية؟!
نريد من إعلامنا أن يميز بين الغث والسمين وينقل لنا حقيقة الإنجاز بميزان علمي دقيق من خلال مرجعية متخصصة تدرك ما يهم القارئ العادي أسوة بتقاليد الصحف الغربية العريقة دون تضخيم أو تضليل أو مباهاة ودعاية - ربما - يكون للعلاقات والمعارف الشخصية دور رئيسي في نشرها.
ختاماً، نحن نعتز ونفتخر بما يحققه أبناؤنا من إنجازات علمية حقيقية، ونترقب ثمرة برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي الضخم ذي الأهداف السامية، وما يُطمح منه في خدمة البشرية من خلال الإنجازات العلمية المرموقة التي أصبحت مطلب الجميع، ونُذكر أن الإعلام مهنة ذات رسالة يسمو عاليا بمهنية العالية.