مثل نخلة في ربوع نجد الأبية؛ ظلت طول حياتها، تقاوم الريح العاتية، وتصمد أمام كل عاصفة، وتمنح الإنسان جمالها وظلها وتمرها، ثم لما جاءها الموت فجأة؛ ماتت واقفة.
o هذا هو الوزير الرشيد (محمد بن أحمد الرشيد)، رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه فسيح جناته.
o فاجأني خبر وفاة أبي أحمد في وقت متأخر من يوم ندوته السبتية، التي كانت منبراً للفكر والأدب والثقافة، وشعلة للتنوير والتحرير؛ في دياجير الأفكار المتلاطمة والمقاومة لكل تغيير وتطوير.
o كان رحمه الله في أعوام وزارته للمعارف؛ يحمل مشروعاً نهضوياً عالي الجودة، ترجم عنه ذات يوم في شعاره الذي رفعه في ميدان العمل وهو: (وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة)، وأنا من بين الذين عملوا في هذا الحقل في هذا الوقت، وأعرف جيداً كيف كان يسعى بكل جد وإخلاص، لجعل التربية في التعليم العام، هي محور إدارته، من مكتب الوزير إلى داخل كل فصل في مدرسة ابتدائية ومتوسطة وثانوية، ولهذا شرع في إرسال البعثات التربوية من شتى المناطق؛ إلى الدول المتقدمة في هذا الميدان، مثل اليابان وماليزيا وغيرهما من الدول الأوروبية، لكي يرى منسوبو الوزارة؛ الطريقة التربوية التي وصلت بها اليابان إلى القمة، ونهضت بها ماليزيا وغيرها من البلدان العالمية. تربية عظيمة تخلق أمة عظيمة دون شك.
o بعد توليه مقاليد الوزارة بعدة أشهر؛ صادف ذلك انتقال الوزارة للعمل بالطائف بداية الصيف، فزرته في مكتبه عدة مرات، وأجريت معه لقاءً كان ساخناً من جانبي، حيث الأسئلة في تلك الفترة تطرح نفسها بطريقة الاستغراب لما يحدث في عدة مناطق تعليمية، ففي بعضها يأتي مدير مدرسة بحلاق ويحلق للطلاب في طابور الصباح..! إلى غير ذلك مما كان أبو أحمد رحمه الله؛ يصب عليه من ماء هدوئه ووثوقه بما سوف يعمل في الوزارة، ما يهون عليّ الأمر.
o ظل رحمه الله يأتي كل صيف إلى الطائف، وتجددت لقاءاتي معه، وكنت أجدها فرصة في بعض أيام الجمع؛ لزيارته في فيلا سكنه بفندق إنتركوتننتال قبيل الصلاة، فأجده منكباً على معاملات وأوراق كثيرة، ويجري حديثاً طويلاً ينتهي مع سماع أذان الظهر، حيث أصطحبه ومعي ابني أشرف؛ إلى مسجد الملك فهد بقلب الطائف، لأداء صلاة الجمعة هناك بناءً على طلبه.
o لماذا أقول هذا الكلام..؟
o لقد روى لي مرة؛ أنه كان ذات يوم خارجاً من الحرم المكي بعد أداء صلاة الفجر، فإذا بأحدهم يحضنه ويأخذ برأسه ويقبله ويقول: سامحني يا دكتور.. كنت أظنك حتى اللحظة لا تصلي..! ثم يردف: قالوا لي ذلك..!
o هذا قليل من كثير مما عاناه وكابده الوزير الرشيد -رحمه الله-.. معاناة تمس ذاته، وأخرى تمس عمله في الوزارة.
o ما أشجع الاعتراف وأجمل الاعتذار، فهذا واحد فقط من آلاف المسيئين اعترف واعتذر..؟! سامحنا يا رشيد.. سامحنا يا رشيد.
o ما أكثر الذين كانوا يؤلفون القصص ضده، ويلفقون التهم في حقه، حتى أنهم اتهموه في دينه وعقيدته، فقط لأنهم اختلفوا معه في طريقة عمله في وزارته التي أراد أن ينهض بها، فوجد سداً منيعاً من الخصوم الذين يأبون أن تنهض وأن تتطور وأن تتغير.
o سلقوه رحمه الله بألسنة حداد، في مجالسهم، وفي صحفهم، وفي مواقع إلكترونية لا حصر لها، ولهذا غردت ناعياً ومعزياً ليلة خبر وفاته، وقلت: (ليت الذين جنوا على الرجل في حياته، واتهموه حتى في دينه، أن يتوبوا الآن، وأن يكونوا شجعاناً، فيظهروا ليعتذروا).
o قبيل أشهر من مغادرته العمل في الوزارة؛ كتبت في هذه الجريدة مقالاً أفند فيه الهجمة الشرسة على الوزير الرشيد وبرنامجه الطموح لتطوير المقررات والمناهج، وكذلك برنامج (التربية الوطنية)، الذي قوبل بعاصفة من الغضب والاعتراض، جاء تحت عنوان: (ماذا وراء التثليم على وزارة التربية والتعليم)، وهذا رابطه:
//2004/20041031/ar4.htm
فهاتفني رحمه الله من مكتبه ظهر الأحد 31 أكتوبر 2004م يوم نشر المقال في شهر رمضان المبارك، يشكرني بكل أدب جم هو فيه، وخلق نبيل عرفته عنه، ويطلب مني ملاقاته في اجتماع عمداء كليات المعلمين بالطائف آخر الأسبوع، لنتحدث في جملة قضايا مما أثير في المقال.
o سعدت بلقائه هناك، وتحدثنا بعد العشاء، وسمعت منه ما كنت أتوقع وما لم أكن أتوقع، من سعي أطراف داخل الوزارة وخارج الوزارة؛ لإحباط كل جديد في التطوير الذي يطمح إليه، وأن أجنحة خارج الوزارة تحاول فرض سيطرتها عليها، وحتى فرض أسماء بعينها في إدارات ومراكز كثيرة.
o كان رحمه الله شعلة من العطاء والنشاط والإخلاص داخل الوزارة، وكان كذلك وهو خارجها، ظل يتكلم ويكتب ويرفع شعار التطوير والنهضة حتى من منبره السبتي. هاتفته قبيل رمضان الفارط أدعوه لزيارة منتدى السالمي الثقافي بالطائف، والتحدث من خلاله عن هذه الأفكار، فوعدني أن يلبي الدعوة في أقرب فرصة، ودعاني لزيارة منتداه في الرياض، فوعدته أن يتم هذا في أقرب فرصة، ولكن الموت كان أقرب إليه من كل الفرص.
o ذهب الوزير المفكر المواطن النقي التقي (محمد بن أحمد الرشيد) إلى بارئه -رحمه الله-، وترك لنا مسؤولية الاعتراف بأخطائنا، والعودة عنها، وأن نملك كل شجاعتنا، فنقول بملء أفواهنا في وداعه المر: (سامحنا يا رشيد.. سامحنا يا رشيد).