من المتعارف عليه في الدول المعاصرة أن التيارات السياسية والتكتلات الحزبية إذا دخلت إلى القضاء ألغت أول ما تلغي العدل والنزاهة. فالقاضي إذا (تحزب) أو انتمى إلى كتلة أو (جماعة) سياسية، فلا يصلح أن يكون (قاضياً) على الإطلاق، لأنه سينتصر لحزبه أو كتلته السياسية كأي إنسان مؤدلج سياسياً؛ فإذا كان أس القضاء الأول النزاهة والعدل وتحري الحق والصواب والحكم بموجب هذه المقتضيات، فإن التحزّب والدخول في التجاذبات السياسية قد (يمس) النزاهة والحياد والتعامل مع القضايا المطروحة أمامه بعيداً الأهواء. لذلك ترفض كل الدول المعاصرة بلا استثناء (تَسيُّس) القضاة، وتشترط على (القاضي) كمبدأ ألا ينتمي إلى أحزاب أو تكتلات أو جماعات سياسية، وتعتبر هذا الشرط (مبدئياً)، أي لا يجوز مخالفته بحال؛ فإذا ضرب القاضي به عرض الحائط فهذا يعني أنه (تمرّد) على النظام وشروطه؛ وممارسة كهذه الممارسة هي بلا شك من (خوارم) النزاهة والحياد، والإخلال بعهدٍ قطعه على نفسه حينما (قَبِلَ) أن يتول ولاية القضاء؛ فإذا أضاع العهد الذي تولى هذه الولاية على أساسه يكون لما سواه أضيع. وهنا بيت القصيد.
هذا ما تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ بياناً نُشر في (تويتر)، يُقال أن مائتي قاضياً في المملكة وقّعوا عليه ورفعوه إلى خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- يحتوي على مطالبات أقل ما تُوصف به أنها محض كيدية؛ وصفق لهم بعد نشره رموز (الحركيين) داخل البلاد وخارجها؛ وهذه نقطة (جوهرية) تُشير إلى أن وراء الأكمة ما وراءها.
البيان أولاً وقبل أن أخوض في تفاصيله هو من حيث الشكل ممارسة (سياسية) بامتياز. ولا أعتقد أن (عاقلاً) يعرف بديهيات العمل السياسي إلا ويصنفه بهذا التصنيف، خاصة ما يتعلق بنشره (علناً) كي يتحول إلى أداة (ضغط) على الحكومة من أجل أن تنصاع إلى تنفيذ ما جاء فيه من (مزايدات) قسراً. وغني عن القول إن حكومة تحترم نفسها، ويهمها هيبتها، لا يمكن أن ترضخ (للي الذراع) الذي يحاول موقعو هذا البيان ممارسته. هذا من حيث الشكل.. أما من حيث المضمون فكل ما احتواه البيان يفتقر إلى الأدلة الملموسة.
أهم ما جاء في البيان (اعتراضهم) على ضم الإدارة القضائية إلى الإدارة العدلية. وهذه تفاصيل ووجهة نظر ليس إلا، فهناك في المقابل عدد من الدول العربية والغربية تعمل بإسناد المهمتين إلى جهة إدارة واحدة، ولم يزعم أحد هناك أن هذا الضم يمس باستقلالية القضاء. والأهم من كل ذلك أن تجربتنا في الماضي القريب في الفصل بين الإدارة العدلية والإدارة القضائية خلقت نوعاً من أنواع تنازع وتداخل الصلاحيات بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء ما انعكس سلباً على تنفيذ مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء؛ وعندما اجتمعت المهمتان تحت جهة إدارية واحدة أنجز من مشروع الملك عبدالله على الأرض ما لم يُنجز إبان الفصل. هذه حقيقة لا يختلف معها إلا مغرض، والواقع على الأرض يؤكد ما أقول.
أما الحقيقة التي لابد من التطرق لها، وتبيانها، أن هناك من يسعى بالفعل إلى تعطيل مسيرة إصلاح القضاء، بتعمّد التأخير، والتأجيل، ناهيك عن الاستهتار بساعات الدوام، والسعي عن قصد وسوء نية إلى تراكم القضايا كي يتعطل المشروع؛ إضافة إلى ممارسات (كيدية) أخرى كثيراً ما نقرأ عنها في الصحافة مثل عدم اعتراف بعضهم ببطاقة المرأة الوطنية، والإصرار على وجود (مُعرف)، وطرد المحاميات الوطنيات، أو مطالبتهن بمحرم وكأنهن في سفر؛ والغرض من كل ذلك إفشال المشروع وتوظيف (التشدد) والتزمت لتعطيله؛ ما خلق صورة شاعت وانتشرت في الداخل والخارج أساءت للقضاء في المملكة، واتخذها بعض المغرضين في الخارج دليلاً على أن (تحكيم) الشريعة لا يتماهى مع العصر. كما أن هناك (ممانعة) مُتعنتة، بل وشرسة أحياناً، لمبدأ تطهير القضاء من (الفساد) الذي أصبح -للأسف- يتداول فضائحه الناس في كل مكان بعد أن كشفته وسائل الإعلام مراراً، ولا دخان من دون نار كما يقولون.. كذلك تذمرهم من ضوابط (التقنية) الحديثة التي كشفت على الملأ مستويات الأداء والإنجاز كما هي على حقيقتها، خاصة وأن هذه التقنية أصبحت (عملياً) بمثابة المرآة الأمينة التي تعكس للصغير قبل الكبير مدى تقاعس بعضهم في أداء أماناتهم وإنجاز ما تصدوا لإنجازه من مسؤوليات؛ والتقنية لا تكذب ولا تجامل.
ولعل (القشة) التي كسرت ظهر البعير، وجعلتهم يخرجون عن طورهم ويتهورون بإصدار هذا البيان السياسي، (منعهم) مؤخراً وبـ(حزم) عن ممارسة العمل (السياسي) كالكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي كموقع (تويتر) مثلاً، وهو منعٌ له ما يُبرره بمعايير النزاهة والحياد، ليس في المملكة فحسب، وإنما في كل بلاد الدنيا، ما جعل التذمر عند بعضهم، خاصة مَن وقعوا على هذا الخطاب، يصل إلى حده؛ فلم يستطيعوا مع هذه الضوابط صبرا، فجاء هذا البيان. وبعد؛ من يعرف هذه البلاد حق المعرفة يعرف حقيقة يتوارثها الأبناء وسيتوارثها أيضاً الأحفاد عن المؤسس -رحمه الله- مؤداها: أن من يضع العصي في دواليب عربة الإصلاح والتنمية سيفشل حتماً مثلما فشل إخوة له من قبل؛ ومن يقرأ التاريخ القريب يعرف من أعني.
إلى اللقاء،،،