الموت ما ينحاه كثر التفدي
يرميك لو انك براس مشراف
(نمر بن عدوان)
هذه الشخصية التاريخية البدوية الشهيرة، حين توفيت زوجته وحبيبته وضحى بكاها حتى أسمعت أناته من به صمم، فصار حزنه مضرب المثل ومعيار الألم، حتى وصلته قصيدة من بدوي بسيط، يكنى بأبي القنيص. وأبو القنيص رجل اشتهر بمقناصه وعشقه للصيد، حتى ابتلاه الله - عز وجل - يوماً بابنه وصغيره فهد. القصة باختصار أن أبا القنيص خرج للصيد يوماً تاركاً وراءه ولده فهد ابن السنوات العشر، وابنه ورث عشق القنص عن أبيه؛ فأحب أن يفاجئ والده بأنه أصبح جاهزاً للخروج معه، فتبع والده ذاك اليوم، وفي الطريق اصطاد طائر الحباري، وأخذ ينتظر والده على طريق العودة، فاشتدت عليه حرارة الشمس، فنام وفرد على رأسه جناحَي الطير ليتقي الحر.
وفي طريق عودته شاهد أبو القنيص الطائر فظن أنه مستلقٍ على الأرض، فاستل بارودته، واسمها المغيظة، التي لا تخالفه أبداً، ورمى الحباري، ولم يعلم أنه قد صاد فلذة كبده ووليده فهد. ارتجف قلب أبو القنيص لحظة ثوران الطلقة. حين اقترب وشاهد جثة ولده شده من تحت الطائر، وضمه إلى صدره ودمه يتناثر على جسده، وارتشفت الأرض من دموع عين الوالد وهو ينظر إلى وليده وابنه، واللسان في الوجدان يصرخ «قتلتُ فهد قتلتُ فهد بيدي».
بعث أبو القنيص بقصيدته إلى نمر بن عدوان يخبره بما ابتلاه به ربه، ولسان حاله يقول لابن عدوان «ما حزنك وفقدك يا نمر مقارنة بما فقدت وبكيفية الفقد»، وذكر أبو القنيص نمر بن عدوان بأن الكل يموت، وسأله أين أجدادنا؟ أين الذين بنوا القصور، وشيدوا الحضارات؟ بدوي يخاطب بدوياً، كلاهما فقد وتوجد وتألم، كلاهما حزن وبكى وعانى، كلاهما عاش الفراق، لكن كما قالت العرب «مصيبة أخف من مصيبة».
تتمة قصة أبي القنيص شاهدي في رسالتي إلى ابن عبود القحطاني أنه حين عاد إلى مضارب العرب ليلاً وهو يحمل بين يديه جسد ولده الغارق بالدم والدموع نشد أم فهد، وطلب منها طلباً غريباً وهي تظنه يحمل بين يديه القنيص، وسألها أن تدور على كل بيت في العرب وتسألهم عن إناء وقدر لم يطبخ فيه لميت أو في عزاء، فذهبت أم فهد حتى لم تجد مطلبها وعادت إلى أبي القنيص تخبره بأنها لم تجد ما نشدها إياها.. وهذه الأبيات خاتمة القصيدة من حوار أبي القنيص وأم فهد وبينهما الجسد المسجى:
جيت لام فهد قلت يام فهد صدي
على صيدة ماصادها الاسلاف
وناديت يام فهد قومي ومدي
وهاتي جدر ماطراه البين باطراف
صاحت وناحت وكثرت بالتصدي
وقالت يا رجل عزرائيل ما أحد عاف
طير المنية بكل ديرة مهدي
يشرف على الدنيا بحقوق وانصاف