المواقف الوطنية لا تقبل الحياد، ولا الاستقطاب، ولا الاعتزال
في كل قضية يحتاج فيها الوطن علماءه وكتابه ومثقفيه للذود عن حياضه والدفاع عن مقدساته وعن مواقفه أتذكر غازي القصيبي رحمه الله وما كتبه في عين العاصفة آنذاك حينما كان الوطن بحاجته فهب ذلك الفارس دونما تفكير بالنتائج
والخسائر والإعفاء والبعد عن مسرح الأضواء ولم يهتم بكل سبل التخويف والتخذيل من الصديق الخائف عليه والعدو الحانق عليه على السواء، وكان في عداء وحرب مع دول عاتية في خصومتها وأجهزة استخبارات محترفة للقتل والتدمير والتفخيخ ومنظومات حزبية كاملة لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة، وأكثر ما يؤلمني اليوم هو من يروج لثقافة الحياد واعتزال الفتن ليبقى الوطن في معركته وحيدا استحضارا لنصوص شرعية في غير موضعها واستدلالا بشخصيات على واقع يختلف عن واقعنا تماما، فأحسست أن الوطن معنا جميعا يستحضر غازي الإنسان النبيل المجرد من كل الألقاب والمناصب والبروتوكولات...
صدقا لا أدري بأي لغة أبدأ بين يديك يا أبا يارا، وكل الحروف تفلتت وكأنها على موعد هذا الصباح الجليدي مع الأطفال لبناء رجل الثلج الذي لفوا على عنقه ألف حبل ملون وألبسوه قبعة واحدة مزركشة، استحضرتك هذا الصباح وقد ارتوت ذاكرتي الصامتة منك البارحة عزاء حتى الثمالة، ولا تعجب أنني سهرت يا أبا يارا ليلا طويلا من أجل البحث عن الحرف البسيط والعبارة السهلة التي لا يعثر عليها الزعماء والقياديون والحزبيون محترفو الخطب المنمقة والشعارات المزيفة، فاستعصى عليّ كل حرف يا غازي، ولكني سحبته كما تسحب القابلة وتدا من رحم أم تناست كل وجع مع صرخة طفلها الأول، الأشبه بخيالك العذب، وابتسامتك العفوية، ونظارتك البسيطة، وفنجان قهوتك المغرية، وروايتك الاستثناء وقوافيك الصراح، سحبته من صدري المملوء حنينا إليك وحزنا على واقع مؤلم لا ندري عن نهايات أطرافه الحزينة، ذات النمط الصعب والنمط المخيف، وكانت قصتي معك البارحة قصة حزينة بتفاصيل موجعة وشخوص ملونين غيرك كانوا يملؤون علي وحشة الليل وعزائي أنني كنت معك في محاريبك، بمسؤولية صادقة ونية سليمة، ولذلك لم تستعر لحروفك غير أسمائها ولم تتسول لمدادك غير ألوانه الطبيعية، ولم تكن تهمك على أي صورة كانت ولا أي رد فعل لها يكون وما أقسى ردود الأفعال علينا يا غازي، ونختلف عنك أنك مضيت مطمئنا لمصيرك كبطل أسطوري يقرأ حتفه في عيون جلاديه الذين أوغروا صدر حبيبه سيف الدولة على متنبيه العظيم وما أكثرهم..
يا غازي، ألف واش لم يهزموك، ولم ينزعوا الحب الكبير لسيف الدولة من قلبك الصغير، وألف صاحب مشروع لم يستطيعوا الصمود أمام حجيتك، وآلاف الدنانير وأكياس الذهب لم تفقدك توازنك ولم تشرعن لك الكبرياء والغطرسة، والمهم أنه لا يزال يبعث صوتك الشجي الذي ما ضاع ولن يضيع كل شريف على البذل والعطاء ومواقف الرجولة وحب سيف دولتك الذي أخلصت له وبامتياز، مرت عيونهم في حدائقهم الغناء بغيرك ولكنها رجعت لك أيها الأصيل، لأنهم اكتشفوا أن الكائنات ذات العيون اللصوصية لا تعيش إلا في الكهوف ولا مكان لها في الشمس وخيوطها القزحية التي تمد الفراشات والزهور والطيور والطبيعة بكل النشاط والبناء واللون والهواء المتحرك والماء غير الآسن، فعجبا لك وعجبا منك، وما أصبرك على قدرك المؤلم ومعاركه التي كانت من كل حدب وصوب والموجع أنك لم تكن تحسن خوضها، لأنك لم تخلق للحروب الخاسرة التي يحترفها من عجزت أكتافهم عن حمل نياشين شرف النبالة وتقدير المعروف...
يا شاعر الأفلاك، العظماء لا يفقدون حد المرونة مهما كانت قوة الشد التي تسلط عليهم في مشروعاتهم، يستمرون في طريقهم إلى القمر ولن يصلوا إلى النقطة الحرجة التي يصلها المقذوف قبل أن يعود للأرض، فكان نصيبه الارتطام بقوة وتسارع الانطلاق، رفعت في وجوههم راية بيضاء استبسالا فانتصرت المبادئ والقيم والإنسانية والوطنية أمام سيوفهم التي استسلمت لك اعترافا بالفضيلة ونبل الإنسان فهزمت الوشاية والنذالة وخبث الثعالب، وصرخت أنها معركة بلا راية وصراع دونما غاية منذ بواكير حياتك التي لم يفهموها ولم يعتبروا بانتصاراتها على الوهم والجهل والظلام ولم يستفيدوا من هزائمهم السوداء، أتدري لماذا لأنهم كانوا يعشقون أنفسهم وكنت أنت تعشق مبادئك يا غازي، وكانت مقالاتك في عين العاصفة حينما عريت قوى الشر وأهدافها غير النبيلة، لم تفكر بإعفائك ولم تنقم بالتزام الحياد على الأقل، وهكذا العظماء الذين يعشقون رسالاتهم يمنحهم التاريخ الخلود والانتصار، العظماء الذين لم يقفوا موقف الحياد أمام القضايا الأخلاقية الكبرى كما قال مارتن لوثر كينج:” أسوأ مكان في الجحيم لأولئك الذين يقفون موقف الحياد أمام القضايا الأخلاقية الكبرى” ولم تكن قضية أخلاقية عندك أكبر من هذا الوطن وقيادته ياغازي. وهكذا كل شرفاء الأرض يؤمنون بوطنهم كقضية أخلاقية ولا أدل على ذلك من كلمات قالها الشاعر العراقي عباس جيجان حينما سأله تركي الدخيل عن مشاركته في الحرب العراقية الإيرانية. فقال والله لم تكن خياري تلك الحرب وتلك المواجهات وأنا شخصيا ضدها ولكنها حينما كانت قدر العراق كان لزاما علي أن أقف مع وطني العراق، وعطفا عليه على كل الحياديين أن يفسروا هذا الموقف الأخلاقي وأن يتحملوا كل نتائجه أمام أجيالهم مثلما كان قدرك من أجل الوطن تلك القضية الأخلاقية أن تتحمل تاريخيا مسؤولية كل ما كتبته تجاه دينك ومليكك ووطنك أيها الخالد، على الأقل في نظر المنصفين الذين يستحضرون عبارة الراحل الماغوط: “ليس الموت هو الخسارة الكبرى، بل الخسارة الكبرى هي ما نفتقده ونحن أحياء”...
لم تكن يا غازي واشيا ولا قاتلا ولا مصاصا للدماء ولا مجيدا لفن صنع بطولات مزيفة في زمن كان بلا أبطال، ولا لرسم خطوط طول ودوائر عرض في زمن كان لا يؤمن بقداسة التراب، ولا لتخيل أوهام أجوبة في زمن كان كله أسئلة واستفهامات، واكتفيت رحمك الله بما رأيته من نرجسيات تضخمت حتى عادت بلا رقبة كما قال ذلك المجنون، وما لمسته فيهم من شعارات حماسية تذوب كالثلج حينما تبتدره طلائع الصيف، ويكفيك صدقا أنك حلقت في سماء الخلود وفي عيون العواصف فتكلمت بالحق والواجب والمسؤولية في وقت وظروف استثنائية صمت المدعون والحياديون والمستقطبون وهم أشبه بذلك الذي صنع له جناحين من شمع فلما ارتفع واقترب من الشمس ذابا فخر صريعا على الأرض...
الحياد ياغازي، هذه الكلمة المؤلمة التي يتمسك بها المنتفعون الجبناء أمام القضايا الأخلاقية الكبرى حبا في السلامة وخوفا من النتيجة وانتظارا للطرف المنتصر في معارك الشرف، هم لا يرون أن الحياة موقف، ولا يعرفون لذة المواقف التاريخية، وربما لم يشعروا أنهم في الفتنة سقطوا، وأنهم مستقطبون بحياديتهم بين الحق والباطل، والأدهى أن كل من لا يقوم بواجبه في نظرهم هو حكيم، وغير مثير للفتنة، وليتهم قرأوا ما في كتاب إدارة التوحش (إستراتيجية القاعدة) لبكر أبو ناجي عن مفهوم الاستقطاب والحياد، ومعناه أن يسعى مفكرو التنظيم إلى أن يلزم السواد الأعظم من الناس الحياد في معركة التنظيم مع الدولة، وهذا السواد سيكون في صف التنظيم إن بدأت الشوكة، ولذلك نسمع كثيرا الحديث عن الفتن هذه الأيام وشرعية الاعتزال فيها والتفصيل في موقف المسلم من الفتن وكل ذلك من أجل الاستقطاب السالف الذكر، ولذلك تعجب من كثير من الخطباء وبعض المحتسبين الذين يسلطون الضوء على أحاديث الفتن وما أكثرها ويسردونها للناس من على المنابر ليلتزموا الحياد ويعتزلوا الفتن كما يزعمون، والواجب أن يقف الجميع أمام من يريد نزع البيعة بغير حق ومن يريد تفتيت جماعة المسلمين ويقوض أركان الدولة ويضعف هيبتها، وهذا الحياد والاعتزال بهذا المفهوم المغلوط إسقاط للنصوص في غير موضعها وسكوت عن الحق والساكت عن الحق شيطان أخرس كما في الأثر وقد وضع العلماء ضوابط لتفسير تلك النصوص التي يمكن أن تتلخص في أن سبب الفِرار من الفتن واعتزالها هو عدم استِبانة الحقِّ فيها، وللأهواء مَداخِل على القلوب في شِدَّتها، وما ورد من النصوص الشرعية في اعتزال الفتن والقعود عنها، فمحله: الفتن الملتبسة التي لا يظهر وجهها، ولا يُعلم طريق الحق فيها، فهذه يجتنبها المؤمن ويبتعد عنها بأي ملجأ. أما إذا ظهر له الحق، وتبين الظالم من المظلوم، والمبطل من المحق، فالواجب أن يكون مع المحق، ومع المظلوم ضد الظالم وضد المبطل. ومادام للمسلمين شوكة وجماعة فالتزامها والدفاع عنها هو الحق وهو السبيل، وقد أخرج ابن أَبِي شيبة عن حذيفة، قال: {لَا تَضُرُّكَ الْفِتْنَةُ مَا عَرَفْتَ دِينَكَ، إِنَّمَا الْفِتْنَةُ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ}. ويؤكده أيضا ما ورد عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- إذ قال: “كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافأن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم). قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: (نَعَمْ، وفيه دَخَنٌ). قلتُ: وما دَخَنُهُ؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها). قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا). قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم). قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)”. فقوله تلزم جماعة المسلمين والتي هي قائمة ولله الحمد في هذه الدولة وولاة أمرها وإجماع الناس عليهم ينقض الحياد ومفهوم الاعتزال الذي يسوغ له بعض طلبة العلم في أحاديثهم، وهذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في موضعين، أحدهما في كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام، والآخر في كتاب الفتن باب كيف الأمر إذا لم يكن جماعة. كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، وكذا الإمام أحمد في المسند، وأخرجه الإمام أبو داود في سننه في كتاب الفتن، وابن ماجه في الفتن. وما أجمل ما قاله ‘الطبري في (نيل الأوطار 7-50-51)، وهو التفسير المعتبر لأحاديث الفتن ومفهوم الاعتزال: “لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهربُ منه، بلزوم المنازل، وكسر السيوف، لما أقيم حقٌ، ولا أُبطِلَ باطلٌ، ولوجد أهل الفسوق سبيلاً إلى ارتكاب المحرمات، من أخذ الأموال، وسفك الدماء، وسبي الحريم، بأن يحاربوهم، ويكفَّ المسلمون أيديهم، ويقولوا: هذه فتنة، وقد نُهِينا عن القتال في الفتنة، وهذا مخالفٌ للأمرِ بالأخذ على أيدي السفهاء.”، وأما الحياديون فلم يبق لهم إلا قول الله جل وعلا: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}. والله من وراء القصد