إن الكثيرين من أسلافنا العلماء يعتبرون موسوعة علمية، فلهم إسهام علمي رائع قاموا به في خدمة الدين والعلم واللغة والأدب والفقه الإسلامي، وواجب جامعاتنا ومراكز البحث العلمي ومنظمات التربية والعلوم والثقافة أن تولي هذا الجانب مزيداً من اهتمامها وعنايتها وبعث التراث الإسلامي ورسم الخطط التربوية والتعليمية التي تنهض بالأمة الإسلامية، فلن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها من قبل.. وحينما نركز على اسهامات أولئك العلماء الأعلام واستعراض اسهاماتهم العلمية الرائعة فإن لذلك فائدته وتأثيره حتى يتسنى للأجيال معرفة ذلك من خلال صياغة نظرية متكاملة واعتماد منهجية خاصة في تناوله واستعراضه، وتشجيع الباحثين على اعداد الرسائل الجامعية وتنقية ذلك التراث من المضامين المتعارضة مع التصور الإسلامي الصحيح.
ومن أولئك العلماء الإمام السيوطي من أشهر علماء عصره وأبعدهم أثراً فقد اطلعت على بعض مؤلفات هذا العالم التي لا حصر لها في ميادين اللغة والتفسير والحديث والفقه والأدب إذ لم يترك باباً من أبواب العلوم الإسلامي إلا وطرقه وكتب فيه، فهو موسوعة علمية كالإمام ابن تيمية وابن القيم وابن خلدون والغزالي وغيرهم من أفذاذ العلماء المتميزين بالأصالة والعمق والمعرفة.
ولقد عاش هذا العالم في عصر الضعف العلمي والتخلف الفكري بسبب هجمات التتار والمغول واحراقهم لخزائن العلم وكنوز المعرفة ورميها في المياه، حينما تقدمت به السن هجر الناس وألف كتابه المعروف «التنفيس في الاعتذار عن الفتيا والتدريس» ومن أهم كتبه تفسير الجلالين والمزهر وجمع الجوامع والاتقان في علوم القرآن وغيرها كثير، وسنتعرف في هذا الحديث على كتابه «التحدث بنعمة الله»، يقول الإمام السيوطي عن سبب تأليفه هذا الكتاب «التحدث بنعمة الله» إن التحدث بنعمة الله مطلوب شرعاً لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وأورد في هذا الشأن عدة أحاديث نبوية تحث على التحدث بنعمة الله شكراً، وتحذر - ضمنا - من التحدث بها استطالة وتكبراً..
والتحدث بنعمة الله يورث المزيد منها، لأنه شكر، والشكر يقتضي الزيادة، لقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} ويستشهد السيوطي بما يقوله ابن القيم (إن الشيء الواحد تكون صورته واحدة، لكن ينقسم إلى: محمود، ومذموم، من ذلك التحدث بالنعم شكراً أو فخراً بها.. فالأول: يقصد به إظهار فضل الله وإحسانه ومدحه، والثناء عليه وبعث النفس على الطلب منه، دون غيره، وعلى رجائه.. والثاني: القصد به الاستطالة على الناس واظهار أنه أعز منهم، وأكبر، واستعباد قلوبهم، واستمالتها.
هكذا بدأ السيوطي كتابه «التحدث بنعمة الله» ليبرر به سبب تأليفه لكتاب يتحدث فيه عن نفسه، أو بالأحرى عن أعماله، وعما أفاض الله عليه من علم يذكر ذلك من قبيل الشكر لله.
والكتاب قامت بتحقيقه اليزابث ماري سارتين، من كلية الدراسات الشرقية، جامعة كامبردج، بإنجلترا، وطبع بالقاهرة بالمطبعة العربية الحديثة، عام 1972م ويقع في 384 صفحة، من الحجم المتوسط، وقد اعتمدت المحققة في عملها على نسخة خطية موجودة بمكتبة توبنجن بألمانيا كما رجعت إلى بعض المخطوطات التي اعتمد مؤلفوها على هذا الكتاب، ويحتوي الكتاب على 21 فصلاً وقد أوضحت المحققة منهجاً في عملية التحقيق والجهد الذي بذلته في قراءة الأصل وقد وضعت كل مجموعة من فصول الكتاب تحت أرقام مسلسلة إلى النهاية، لسهولة الرجوع إليها، عند التعليقات الموضوعة في نهاية الكتاب.
ولقد أشار المؤلف على أن التحدث بنعمة الله مطلوب شرعاً، بغرض توجيهه لله تعالى، دون المباهاة والتكبر، ثم استشهد على أن العلماء السابقين له، قد كتبوا لأنفسهم تراجم، ولهم في ذلك مقاصد حميدة كالتحدث بنعمة الله والتعريف بأحوالهم ليقتدى بهم ويستفيد منها من لا يعرفها.