دخلت منزل والدي- حفظه الله- وبعد تقبيل جبينه والسلام قلت : أحسن الله عزاءك في فقيدنا الشيخ الفاضل عبدالله بن عبدالرحمن الضويان الذي وافته المنية قبل أسبوع. لم أكن أتوقع ولم يدر بخلدي أن تلك الكلمات ستثير شجون الوالد الفاضل وتدفعه للاسترسال في حديث
لا يُمل عن سيرة الفقيد الغالي ومناقبه، كان إحساس الوالد متأثراً بالغ التأثر، ليس لأن الفقيد غالٍ علينا جميعاً بحكم المعرفة والالتقاء بنسب واحد فقط، وإنما كان ذلك لأمور كانت وللأسف خافية عني أحببت أن أسطّرها في هذا المقال عرفاناً للفقيد الراحل عليه من الله الرحمة والغفران.
يروي والدي- حفظه الله- أنه في بداية حياته العلمية بالمعهد العلمي بالرياض كان يسكن مع عدد من الأقارب والأصدقاء -من بينهم الفقيد- في منزل واحد، وكان -رحمه الله- في سنة متقدمة بالدراسة، كان جميع من يسكن ذلك المنزل منتظما في دراسته إلا والدي- حفظه الله- الذي فاته التقديم الأمر الذي جعل زملاءه في المنزل يهتمون بذلك الأمر أيما اهتمام وفي مقدمتهم الشيخ عبدالله حيث قام -رحمه الله- بصياغة خطاب (معروض) موجهاً لفضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ « أملاه للخال الفاضل سليمان الجاسر الحربش مدير عام صندوق الأوبك في فيينا (الأوفيد)، الذي كان حينها يقطن مع المجموعة ويدرس في نفس المعهد وقد قام الشيخ عبدالله بإملائه لأنه فقد البصر في سن مبكرة من عمره، وبعد تلقين الفقيد لوالدي لما يجب أن يقوله للشيخ عبداللطيف، ذهب والدي ولكن الشيخ قابل طلبه بالرفض واستحالة الأمر، فعاد أبي إلى المنزل ليستقبله الفقيد- رحمه الله- ويشد من عزمه ويقول له لا تيأس وقام بصياغة خطاب آخر بل كرر ذلك أربعة أيام متواصلة، ليقوم فضيلة الشيخ عبداللطيف في اليوم الرابع ربما محاولة منه للتخلص من والدي الملّح بتحويله إلى الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمنعم وكان المسئول عن المعهد العلمي آنذاك، حينها أعاد الفقيد- رحمه الله- الكرّة وأعد خطاباً بنفس الطريقة وحفّظ الوالد أسماء المراجع الشرعية ومؤلفيها ليعطي الانطباع الجيد للشيخ عبدالعزيز بن عبدالمنعم لعله يحظى بالموافقة والتي بحمد الله تمت مع الاشتراط بألا يطالب بالمكافأة ولا بكرسي في الفصل، وانفرجت المشكلة ليقوم الشيخ عبدالمنعم بتحويله إلى الأستاذ محمد الحواس- رحمه الله- الذي أكد الشرطين المذكورين إلا أنه وعده بالحصول على كرسي لتفادي الجلوس على الأرض أسوة بزملائه -وكان والدي- حفظه الله- لا يهمه هذا الأمر في سبيل العلم والمعرفة-، وقبل ختام تلك القصة طمأنني والدي لاحقاً بأنه حصل على المكافأة وبأثر رجعي بعد وضوح جديته وتفوقه بالدراسة.... لا أعتقد أن ما قام به الفقيد تجاه الوالد إلا انعكاساً لما يمتلك هذا الرجل من شهامة غفر الله له ورحمه.
لاشك أنني أشعر بالفخر عندما أكتب عن والدي الفاضل، ولكني لا أستطيع أن أخفي فخري أيضاً بالفقيد الغالي فقد كان من أكبر الداعمين بالطرق المعنوية للوالد، ولعلي أضيف دعماً معنوياً آخر، فالراحل له التأثير أيضاً على الوالد لقبول الالتحاق بالجامعة الإسلامية عند افتتاحها بالمدينة المنورة بعد تردد منه في ذلك، ولكن الفقيد- رحمه الله- قام بتشجيعه ليتخرج لاحقاً من كلية الشريعة.
ومن أطرف الأمور تكرار ما حصل مع الفقيد الغالي من رفضه للقضاء بعدما عُرض عليه بعد تخرجه من كلية الشريعة مع الوالد -حفظه الله-، حيث عرض عليه القضاء ليرفضه تماماً وأمام المفتي العام الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله.
ولعل الوقفات المتنوعة والثريّة بيني أنا شخصياً وبين الشيخ عبدالله- رحمه الله- كانت هي المنطلق والأساس في منزلته العالية في قلبي، فلن أنسى أبداً ما حييت تدريسه لنا القرآن الكريم بأسلوب شيق، ولن أنسى كذلك اللسعات المؤلمة عندما لا أحفظ، فقد كان صارماً جداً غرضه في ذلك مصلحتي وزملائي، وكذلك لن تسقط من ذاكرتي مطلقاً لذة الاستمتاع بالجلوس بمجلس يحضره حيث كان دائم الزيارة لنا في منزل جدي لأمي المرحوم جاسر بن سليمان الحربش وبحضور العم الفاضل عبدالرحمن بن عبدالله الحربش وأحياناً العم الفاضل الدكتور جاسر بن عبدالله الحربش والخال العزيز سليمان بن جاسر الحربش، حيث كنت أقوم بتقديم القهوة ومستلزمات الضيافة وأستمتع بحديثهم المليء بالأنس والمرح.
و كما هو معروف فإن الشيخ عبدالله- رحمه الله- هو سليل أسرة الضويان العريقة من آل زهير من بني صخر والتي ينتمي إليها الشيخ إبراهيم بن ضويان أحد علماء نجد المعروفين والمتوفى عام 1358هـ والذي كان مرجعا للإفتاء في عصره وأروى الناس بعدد من المؤلفات التي لازال الكثير ينهل من معينها كان من أشهرها كتب منار السبيل في شرح الدليل، رفع النقاب في تراجم الأصحاب، تراجم علماء القصيم وكذلك كتابه رسالة في أنساب نجد وغيرها.
في الحقيقة فإن الفقيد الغالي الشيخ عبدالله كان له كل تقدير من جميع أفراد العائلة كبيرها وصغيرها، فقد أثرت سيرته في نفوسنا كثيراً. رحمك الله يا شيخ عبدالله، وصبّر زوجتك وأولادك وبناتك، وجزاك الله بالحسنات إحساناً وبالهفوات عفواً وغفراناً وجمعنا وإياك وجميع من ذكرت في جنات النعيم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.. ذهب الشيخ وبقيت محاسنه حديثا حسنا يرويه الأبناء للأحفاد، أو كما قال ابن دريد في مقصورته:
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى