أكَّد لـ«الجزيرة» مختصون اقتصاديون ضرورة تنويع مصادر الدخل الخليجي لتخفيف تأثير العوامل الخارجيَّة وتقلُّبات السوق العالميَّة، وتطبيق قوانين فعّالة للتوسع في برامج ترويج الصادرات والخدمات الماليَّة لخدمة التصدير، لافتين إلى أن تكريس الشفافية وتعزيز الصناديق السيادية الخليجيَّة، وإقرار العملة النقديَّة الخليجيَّة الموحدة هي أبرز التحدِّيات التي تواجه الاقتصاديات الخليجيَّة، في الوقت الذي أصبحت مصادر الطاقة النفطية التقليدية لا تفي بجميع متطلبات المجتمع الدولي. وجاء حديث المختصين لـ»الجزيرة» في ضوء تقرير لـ«بنك ستاندرد تشارترد» أفاد بأنّ العالم يشهد ثالث دورة اقتصاديَّة عظمى عقب الدورتين الأولى والثانية الحاصلتين في الفترة بين عامي 1870 و1913 وعامي 1946 و1973 واللتين ترافقتا بنمو اقتصادي هائل ومتسارع على المستوى العالمي. وأوضح التقرير «أنّ الدورة الاقتصاديَّة العظمى في العالِمَ لا تزال ضمن الإطار السليم إلى حدّ كبير. وتوقع البنك بأن يسجل الاقتصاد العالمي نموًّا بمعدل 3.5 في المئة في الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2030، وهو ما يتجاوز معدل الـ 3.0 في المئة المسجل خلال الأعوام العشرين الماضية. 70 في المئة من النمو الاقتصادي العالمي سينجم عن الاقتصاديات الناشئة وذلك لغاية 2030م. وتوقع التقرير أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم بحلول العام 2022، متفوقةً بذلك على الولايات المتحدة الأمريكية. وبالمقابل، سيبقى دخل الفرد الواحد في الصين أقل من ثلث نظيره في الولايات المتحدة ومن المحتمل أن تمثِّل التجارة بين الاقتصاديات الناشئة 40 في المئة من إجمالي التجارة العالميَّة بحلول 2030، ارتفاعًا من الـ 18 في المئة. بداية أوضح عبد الله العلمي عضو جمعية الاقتصاد السعوديَّة أن التحول قادم لا محالة. الظروف الاقتصاديَّة والسياسيَّة في الولايات المتحدة الأمريكية ومستوى «الارهاق» الذي وصلت إليه سينتج عنه ظهور قوى إقليميَّة اقتصاديَّة ناشئة تبحث لها عن دور فعَّال في المنطقة. لا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستواجه تحدِّيات اقتصاديَّة وماليَّة معقدة على المدى البعيد، وأن الدلائل تشير إلى تحوَّل محور الاقتصاد العالمي إلى الصين والهند اللتين تمثلان مستقبل الاقتصاد العالمي، وبالتالي زيادة في الاعتماد التجاري بين دول آسيا (وبصفة خاصة الصين والهند) وبين دول مجلس التعاون الخليجي. وحل انعكاس هذه الظروف على اقتصاديات دول مجلس التعاون قال العلمي: اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي تصنَّف ضمن اقتصاديات الدول الريعية التي اتخذت الاقتصاديات النفطية عنوانًا رئيسًا لها باعتمادها على سلعة إستراتيجية واحدة وهي النفط، بغض النظر عن الطاقة التمويلية لهذه الدول ومستوى متوسط دخل الفرد فيها. ولأن النفط من أهم مصادر دخل دول المجلس، فإنَّه من البديهي أن يعتمد أداء الاقتصاد الكلي لهذه الدول على ما يتعرض له قطاع النفط من تغيِّرات في الأسواق العالميَّة، منوهًا إلى أن الحلول لمواجهة التحدِّيات المستقبلية تكمن في قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على بلورة سياسات اقتصاديَّة ونقدية جديدة لتعزيز متانة وصلابة التعاون بين الدول الخليجيَّة، وفي تنويع مصادر الدخل وبالتالي تنويع الصادرات من أجل التخفيف من تأثير العوامل الخارجيَّة وتقلُّبات السوق العالميَّة. وشدد عبد الله العلمي على أن مسؤولية دول مجلس التعاون الخليجي لمواجهة هذه التحدِّيات هي تنويع الهيكل الإنتاجي لمصادر الدخل بما في ذلك تطوير الصناعات البتروكيماوية وإقامة صناعات ثانوية وخفيفة مترادفة مشتقة من الصناعات الأساسيَّة، حيث ستعمل هذه المعادلة على جعل دول مجلس التعاون رائدة في التصدير ومنافسة بسبب توفر معظم المواد الأولية محليًّا. وليس المهم فقط المحافظة على اقتصاديات مستقرة وأن تكون أسعار صرف عملاتنا الخليجيَّة ثابتة، بل لا بد من تخفيض معدلات التضخم وتحقيق عوائد مناسبة للاستثمار لتأمين حياة كريمة للأجيال القادمة.
واستطرد قائلاً: علينا أيْضًا تطوير قاعدة الاقتصاد غير النفطي وإعادة هيكلة القطاع الصناعي في دول المجلس للاستفادة من الطاقات الفائضة وتعزيز الربحية والقدرة على التنافس، والاستثمار الفعَّال في الموارد البشرية الوطنيَّة. نريد أيْضًا سن وتطبيق قوانين فعّالة للتوسع في برامج ترويج الصادرات والخدمات الماليَّة في مجال التصدير. على حكومات دول مجلس التعاون إيجاد الفرص لخفض معدلات البطالة في صفوف الشباب ودفع مشاركة المرأة في الحياة العامَّة. واتفق عضو جمعية الاقتصاد السعوديَّة مع مبدأ أن دور الحكومات ليس فقط إشرافها على استكشاف واستخراج واستغلال الثروات النفطية والمعدنية، بل استكمال برامج المدن الصناعيَّة الحديثة والبنى التحتية وتدريب الأيدي العاملة الوطنيَّة لتأهيلها للانخراط في المشروعات الصناعيَّة. في المقابل دور القطاع الخاص فيكمن في زيادة الاستثمارات في المجال الصناعي وتوظيف المواطنين من الجنسين، وبالتالي دفع عجلة التنمية الاقتصاديَّة في المرحلة القادمة. الشباب الخليجي لديهم المقدرة والكفاءة لتطوير قدراتهم الذاتية لتنمية واستيعاب التكنولوجيا في القطاع الخاص، ومن الخطأ عدم الاستفادة من هذه الخبرات المحليَّة. القطاع الخاص بحاجة أيْضًا لإيجاد الظروف الملائمة لتنويع موارد تمويل الاستثمار في الصناعات الخليجيَّة.
وأشار العلمي إلى أن دول مجلس التعاون أمامها تحدِّيات اقتصاديَّة صعبة فعلينا تطوير مصادر الطاقة المتجددة والوصول للأمن الغذائي وتطبيق حوكمة الشركات وتكريس الشفافية في أعمالنا التجاريَّة وخلق بيئة جاذبة لتطوير القطاع الخاص، وتعزيز الصناديق السيادية الخليجيَّة، وإقرار العملة النقديَّة الخليجيَّة الموحدة. كذلك علينا مواجهة تحدي سياسة الصين والهند التقليدية التي تعتمد على الحماية الجمركية. ثروتنا في شبابنا؛ وبما أن الشباب يشكِّلون ثلث عدد سكان دول مجلس التعاون، فهذه في نظري أفضل فرصة للحكومات للاستثمار والنمو الاقتصادي والازدهار الاجتماعي.
من جهة أخرى أشار الاقتصادي ونائب رئيس شركة سابك السابق عثمان الخويطر إلى أن الفترة الثالثة من نموّ الاقتصاد العالمي، التي بدأت من عام 1973 ولا زلنا نعيشها اليوم تتميز بأنها تزامنت مع بداية وفرة الإنتاج النفطي الرخيص. الذي كان له الفضل الأول بعد الله في تقدم العالم اقتصاديًّا وتقنيًّا وعلميًّا وحضاريًّا. والنفط، كما معروف، مصدر غني بالطاقة. وعلى الرغم من تقلُّبات الأسعار خلال الأربعين سنة الماضية من بضع دولارات للبرميل إلى ما يزيد عن المئة دولار حاليًّا، إلا أن النمو الاقتصادي ظلَّ يأخذ مجراه بنسب متفاوتة. مستثنين فترة المئة وخمسة وأربعين دولارًا للبرميل التي لم تدم إلا أسابيع قليلة من عام 2008، وتزامنت مع الأزمة الماليَّة الحادة التي اجتاحت معظم دول العالم ولا تزال آثارها باقية إلى الآن. ولعل المتخصصين في علم الاقتصاد لديهم الخلفية التي تمكَّنهم من معرفة الرابط بين ارتفاع أسعار النفط الصاروخي في عام 2008 وبين ما حدث من خلخلة للنظام الرأسمالي في تلك الفترة، أو أنَّه مُجرَّد مصادفة. وأضاف قائلاً: مما لا شكَّ فيه، أن مصادر الطاقة هي التي تسيِّرُ وتبعث الحياة في الاقتصاد الدولي بل وترفع من معنوياته وتساعد على نموه. ولولا الله، ثمَّ توفر النفط وبكميات هائلة وأسعار متدنية نسبيًّا لما استمر النمو الاقتصادي بهذه الوتيرة التي لم يشهد لها التأريخ مثيلاً خلال العقود الماضية. وهذا يعني، من دون أيّ شك، أن بقاء نسبة النمو السنوية على ما عليه أو عند مستوى أفضل، مرهون بوجود مصادر طاقوية ذات تكلفة مقبولة وبأسعار مناسبة.
وأضاف الخويطر أن المصادر النفطية التقليدية وهي التي كانت تمد العالم بنسبة كبيرة من الطاقة لعشرات السنين أصبحت لا تفي بجميع متطلبات المجتمع الدولي. وهو ما دفع الكثير من الدول إلى البحث عن مصادر أخرى للطاقة قد تكون أكثر تكلفة وأقلكفاءة من النفط التقليدي. ففي الولايات المتحدة لجؤوا اليوم إلى الجيل الثاني من النفط، وهو ما يسمى بالنفط الصخري، أو النفط غير التقليدي. ويكلِّف إنتاج البرميل، بوجه عام، ما بين 60 إلى 80 دولارًا ويبيعونه بربح بسيط. ومن المستحيل اقتصاديًّا اليوم إنتاج هذا النوع من النفط خارج أمريكا، حتَّى يصل سعر البرميل فوق 150 دولار، لأسباب «لوجستية».
وكمية الإنتاج من الجيل الثاني، أو النفط الصخري قليلة جدًا بالنسبة للنفط التقليدي، أمثال نفوط دول الخليج العربي. ولذلك فنحن نخشى أن يكون العالم الآن على حافة نقص مخيف في مصادر الطاقة قد يعطل النمو الاقتصادي العالمي.
وإذا توقف النمو تفشَّت البطالة وعمَّت الفوضى المجتمعات وانهارت الحكومات، لا قدر الله. وأشار عثمان الخويطر إلى أنّه وعلى الرغم من وجود كميات كبيرة من النفط غير التقليدية مثل النفط الصخري والصخر النفطي «الجيل الثالث من النفط» فإنَّ تكلفة الإنتاج والمؤثِّرات البيئية التي يتميز بها إنتاج الصخري قد تحدّ من التوسع في إنتاجه.
وتبقى المصادر المتجدّدة، كالطاقة الشمسية التي أصبحت في متناولنا اقتصاديًا، من أهم روافد المصادر النفطية التي نحن بحاجة لها. وسوف تخفف من آثار نقص المصادر الأخرى، لولا أن العالم قد تأخر كثيرًا في اللجوء إليها كمصدر مستديم ونظيف لتوليد الطاقة.
وحول مستقبل اقتصاد دول الخليج خلال السنوات القليلة المقبلة قال نائب رئيس شركة أرامكو السابق: من المتوقع أن يستمر الطلب على النفط عند أعلى مستوياته، ليس فقط للعشرين سنة القادمة بل حتَّى النضوب.
وستظل الأسعار مرتفعة والدخل وفيرًا ما دام أن الطلب العالمي على مصادر الطاقة في ازدياد مستمر. وحتى لو تقلص الطلب العالمي قليلاً لأسباب اقتصاديَّة، وهو مستبعَد، فإنَّ نفطنا سوف ينافس المصادر الأخرى.