أفاد تقرير صادر عن المحكمة الأوروبية بشأن أوضاع طالبي اللجوء في إيطاليا، أن ظروف جلَّ القادمين إلى هذا البلد سيئة للغاية،كما أكدت العديد من الجمعيات الأوروبية، ولا سيما منها الإيطالية الناشطة في المجال الإغاثي صعوبة العمل الجمعياتي ومحدوديته، جراء نقص الدعم والإمكانات، وذلك من خلال استعراضها الظروف الرثة التي يعيشها اللاجئ، أكان قدومه لأسباب سياسية أو إنسانية، نحو إيطاليا.
فقد أصبحت إيطاليا مع تدفق الأعداد الهائلة من اللاجئين من دول الجنوب بلداً عاجزاً عن تلبية احتياجات القادمين، بما يتجاوز قدرات البلد. حيث تبقى المؤسسات والهياكل المعنية بالاستقبال عاجزة مادياً وهيكلياً عن تلبية الحاجات الأولية، كالمأكل والملبس وتوفير مواد التنظيف وإتاحة العلاج والمداواة، طيلة مدة الاحتجاز القانوني للمهاجرين غير الشرعيين، بقصد التعرف على هوياتهم.
في وقت يعتبر فيه الكثير من اللاجئين إيطاليا محطة عبور للمرور نحو بلدان أخرى، لكنهم يجدون أنفسهم مكرهين على الإقامة في محتشدات، بقصد التثبت من هوياتهم. مع أن العديد من القادمين يفضلون عدم تقديم طلبات اللجوء في إيطاليا، بل مغادرتها إلى بلدان أوروبية أخرى جراء ما بلغهم ممن سبقهم من تحذيرات لما ينتظرهم في إيطاليا.
رصدنا في تحقيقنا هذا جملة من العينات عن أوضاع طالبي اللجوء العرب في إيطاليا، ظاهرها مغامرة وباطنها شقاء. حيث زرنا بعض مراكز الاستقبال - التي هي عبارة عن محتشدات - يتكدس فيها لاجئون من مختلف الدول الإفريقية والآسيوية مثل: إريتريا والصومال والسينغال والكاميرون وأفغانستان وبنغلادش وكثير من دول جنوب القارة الأمريكية، إضافة إلى لاجئين عرب ولا سيما من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. كان لنا موعد مع سيدة عراقية تدعى «فاطمة» تبلغ من العمر أربعين سنة، وهي أم لخمسة أطفال ذكور، في «مركز رومانينا» المحاذي للطريق السريعة خارج المنطقة السكنية في روما، علماً أن السيدة تتواجد بالمركز منذ سنة تقريباً. أخبرتنا اللاجئة «فاطمة» أنه بعد وصولها إلى إيطاليا بحراً سارعت إلى طلب اللجوء، حينها كانت على وشك الإنجاب، فهي لا تعرف أحداً في هذا البلد الجديد، ووفق روايتها تم اختطاف زوجها في بغداد وانقطعت أخباره. كما تضيف أنها حين وصلت إلى صقلية كان همها الوحيد إيجاد مسكن آمن لها ولأولادها الأربعة، غير أنه تم نقلها إلى روما لعدم توفر أماكن في مراكز الاستقبال في باليرمو. تقول «فاطمة» بعد أقل من نصف عام، أي بعد حصولها على بطاقة لاجئة، تفاجأت بتغير التعامل معها. تقول: كنت قد سميت مولودتي الجديدة إيزابيلا، تقرّبا من الإيطاليين وطمعاً أن يرأفوا لحالي، لكنهم أخبروني إن لم أجد عملاً فسيقومون بانتزاعي فلذات أكبادي مني ونقلهم إلى دور العناية التابعة للكنيسة لتتولى تربيتهم والسهر عليهم راهبات، لكوني ليس لي مسكنا ملائما وليست لي قدرة مادية كافية للتكفل بهم.
كما صرّحت لنا «مادلينا»، وهي سيدة قبطية من مصر عمرها لا يتجاوز الخامسة والثلاثين، أمّ لثلاثة أطفال، طلبت هي أيضاً اللجوء في إيطاليا، وأنها تعرفُ المشكلة نفسها التي تعاني منها زميلتها العراقية «فاطمة»، وهي متخوفة من انتزاع أولادها منها أيضاً، وإن كانت ليست بدرجة التأثر التي تعيشها فاطمة لحساسية المسألة الدينية لديها وخشيتها من تنصّر أبنائها. تقول «مادلينا»: هربنا من الأوضاع السيئة في مصر فوقعنا في ما هو أسوأ. كنت أظن رفقة زوجي أننا جراء اشتراكنا في الدين مع الإيطاليين سنجد حظوة لديهم، وأن حياتنا ستكون أفضل هنا، وسيجد زوجي شغلا يمكّننا من العيش بكرامة، وإذا بنا نلاقي النفور ونصارع الاحتياج والتشرد من ملجأ لآخر، فليست هناك أخوة مسيحية كما كنا نقرأها في الكتاب المقدس ونسمعها في الكنائس في مصر. فقد قَبلتْ هذه الدار التابعة للكنيسة التي تشرف عليها راهبات، إيوائي رفقة أولادي، أما زوجي فعليه أن يتصرف لإيجاد مأوى. أصبح يلتجئ إلى المحطات والبنايات المهجورة ليقضي ليله. وتضيف مادلينا أنها تسمع يومياً نصح الراهبة «جورجيا» بالتخلي عن الأولاد والذهاب للبحث عن عمل.
لاقت «هيام» وزوجها «سعد»، القادمان من حلب من سوريا المصير نفسه. فقد انتزعا أولادهما الثلاثة منهما غصباً، بسبب عدم قدرة الزوج على إعالة أفراد أسرته وتوفير محل للسكنى إليهم، إذ قامت المساعِدة الاجتماعية رفقة الشرطة بانتزاع الأبناء القاصرين منهما، فأصبحا التعيسان «هيام» و»سعد» هائمين في شوارع روما. وتقول «هيام» أنها باتت مشغولة أن يفقد زوجها عقله فقد أصبح مدمنا على المهدئات واحتساء الجعة.
وأثناء قيامنا بهذا التحقيق أخبرنا أحد اللاجئين التونسيين الذين صادفناه ورفاقه قابعين قرب محطة القطارات الرئيسية في العاصمة روما، أنه يقيم في بيت خرب مهجور بمنطقة نائية مع حشد من الغجر والرومانيين والألبان. وصرح رفيقه «فيصل» البالغ من العمر عشرين سنة، أنه عند وصوله إلى جزيرة لامبيدوزا وإيداعه من قبل الشرطة في مركز الاستقبال، تمكن في اليوم الموالي من الفرار لأن المركز يفتقر إلى أدنى شروط النظافة، وهو عبارة عن إسطبل للحيوانات. ويقول «عصام»، شريكهم في الفرار من محتشد لامبيدوزا، أن الطبق الذي يُقدَّم فيه الأكل في ذلك المركز شبيه بالطبق الذي كانت تقدم فيه والدته في تونس الأكل لكلبهم. ويضيف كنا في ذلك المركز نشبه الحيوانات البرية داخل الأقفاص، ولذلك عقدنا العزم على تسلق الجدران واجتياز حواجز الأسلاك الشائكة المحيطة بالمركز.
ويؤيد الشاب «أحمد» رأي رفيقه «فيصل»، وهما شابان في ربيع العمر من المغرب الأقصى، يعيشان في بيت مهجور على مقربة من بحيرة منذ ما يزيد على السنتين. مع مرور الأيام وبسبب ضيق ذات اليد لم يجدا سبيلاً سوى احتراف مهنة صيد الأسماك من البحيرة المجاورة أو من الوادي القريب للاقتيات. ويواصل «أحمد» قوله: قمنا في أحد الأيام باصطياد بطة رغم أن هذا العمل محجَّر، فعلنا ذلك فجراً خفية عن أعين الناس. ولم يُخفِ «عزيز» ألمه من عيشه كلاجئ في إيطاليا، بعد أن كان يمني النفس بالنعيم. فقد ظننتُ -كما يقول- إن وضعي كلاجئ في هذا البلد سيتيح لي الحصول على امتيازات المسكن والمأكل والشغل، لكني وجدت العكس تماماً، فها أنا أصارع التشرد والفقر والمرض.
وقد ذهلنا عند استجوابنا للشاب «مراد»، وهو تونسي، لوجود آثار حروق على أطراف أصابعه، راح يروي لنا قائلاً: أتيت منذ سنتين إلى إيطاليا، وقد كنت من المحظوظين لأن السلطات الإيطالية منحتني إذن إقامة قصيرة الأجل كلاجئ اجتماعي بسبب الأوضاع في تونس، وكما تعرفون الكثير منا أتوا إلى إيطاليا بقصد العبور نحو فرنسا، وليس بقصد البقاء والاستقرار هنا، ونحن رعايا المغرب العربي وجهتنا دائما نحو فرنسا، إلا أنها أصابتنا صدمة وخيبة أمل، لأن فرنسا التي كنا نهيم بها رفضت استقبالنا. وقد حاولتُ مرارا اجتياز الحدود الفرنسية خلسة وتغيير بلد الإقامة إيطاليا، ولكن الشرطة الأوروبية تعيدني دائما إلى الوراء. لست بمفردي من قام بذلك بل هناك المئات، لأن القانون الأوروبي للاجئين يفرض ذلك، فالدولة التي تستقبلك لاجئا للمرة الأولى وتُسجّلك لديها، بعد أخذ عينة من البصمات، تبقى مجبرا على الإقامة فيها، وحتى إن سافرت إلى دولة أوروبية أخرى، ينبغي ألا تتجاوز مدة المغادرة ثلاثة أشهر، ولهذا السبب خطرت في بالي فكرة جنونية، أحرقت أصابعي بسبب البصمات التي جعلتني حبيسا في إيطاليا ولا يمكنني الخروج من هذا البلد.
وصرح لنا «بسيوني» من مصر، وهو من طالبي اللجوء وقد أصبح من قاطني محطة مترو الأنفاق بيراميدي، أي الأهرام. يقول : أنا ماكث هنا بعدما ضاقت بي السبل ولم أجد من يعينني، فمركز استقبال اللاجئين في روما رفض مساعدتي، بدعوى نقص الإمكانيات، فقد أخبروني أن البلدية ينبغي أن تضمن كافة نفقاتي من مأكل وملبس وعلاج، ولذلك قررت المكوث هنا في بيراميدي، قبالة هذا الهرم الشامخ الذي شيد على شاكلة الأهرامات المصرية، وهو ما يذكرني بأيامي الجميلة حين كنت جمّالا أرافق السياح في مصر في تجوالهم ومعي قطيع من الإبل، وللأسف لقلة السياح في بلدي، ركبت البحر على متن قوارب الموت، على أمل أن أجد بر الأمان والثروة، وإذا بي قابع طوال اليوم أتملى في «الهرم» المنتصب في روما.
وجراء هذه الحالات الإنسانية الصعبة بين أغلب اللاجئين، حاولنا استفسار الأمر من مديرة أحد مراكز استقبال اللاجئين في منطقة «تور ديسكيافي» في ضواحي روما. أوضحت السيدة «فرانشيسكا»: بِتنا نستقبل العديد من اللاجئين، ولا سيما في السنوات الأخيرة، ولا نملك الوسائل الكافية لتغطية جميع النفقات مما اضطرنا إلى عدم استقبال اللاجئين. وتضيف المديرة: نأسف لمعاناة اللاجئين الوافدين، لكن على المجموعة الأوروبية أن تساهم بتزويدنا بالمال لأن المشكلة أوروبية وليست فقط إيطالية.
من جانب آخر أخبرتنا «جوليانا»، وهي رئيسة جمعية تعنى بشؤون اللاجئين، تقول: إن الكثير من اللاجئين أصيبوا بأمراض عقلية ونفسية بسبب الضغط النفسي الحاد، وتؤكد أن أغلبهم يأملون في الحصول على إذن الإقامة في إيطاليا وبعدها يتطلعون إلى تغيير بلد الإقامة، لكن طول مدة الانتظار يسقطهم في متاهات وانحرافات، هذا فضلاً عن الإدمان بكافة أشكاله. وتذكر أنها اهتمت بمجموعة من الأطفال القاصرين، ممن لم يبلغوا سن الرشد، قدم جلهم من تونس في السنوات الأخيرة بعد الثورة. تم إيقافهم في العديد من المرات من قبل الشرطة بسبب احترافهم السرقة والنشل وغيرها من الأعمال الإجرامية.
وإن يكن من سمات اللاجئين عامة التذمّر، فإن ما يشترك فيه جلّ اللاجئين في إيطاليا ممن قابلناهم وهو الندم على المجيء إلى إيطاليا. فالجنة التي قد يتصورها اللاجئ قابعة في ما وراء البحار، هي عادة سراب خادع سرعان ما ينقشع ما أن تطأ أقدام المهاجر تراب جزيرة لمبيدوزا.