للألم في قلب الإنسان وقعة وآثاره كما أن للمعاناة تأثيرها في حياة الإنسان وتُغّير في حياته الشيء الكثير، فكثير ممن فجعوا بأشخاص أعزاء عليهم، ومن وقع المصيبة عليهم نبغ فيهم من الإبداع ما كان فيهم بركانا خامدا في شبابهم رغم تقدمهم في السن والأدلة على ذلك كثيرة، فالألم والمعاناة وجهان لعملة واحدة قد تفّجر في الإنسان مشاعر وأحاسيس كانت مكبوتة من قبل، ولكنه لم يستطع تطويعها، كما سوف نتحدث في هذه الأثناء عن قصة وقصائد حسينة الشراري التي يجدر بنا أن نطلق عليها لقب (شاعرة المعاناة)، فقد تعرضت لموقف فجّر فيها براكين من المشاعر المكبوتة لتُعبّر عن معاناتها بتلك القصائد الشعرية التي لامست وجدان كل من سمعها أو قرأها وهو يعرف قصتها، فهي لم تكن شاعرة من قبل تعرضها لذلك الموقف الذي كان سببا في فقدانها لزوجها وخمسة من أبنائها ثلاثة ذكور وابنتين، نسأل الله لهم الرحمة والمغفرة، وتتلخص القصة في أنها في شهر رمضان المبارك ذهبت مع زوجها سلامة الشراري وأولادهما براً من محافظة القريات إلى مكة المكرمة لأداء العمرة في أيام العشر الأواخر من رمضان وبعد أن أتموا العمرة بالحلق والتقصير عادوا إلى أحد الفنادق لينعموا بقسط من الراحة وباتوا ليلتهم في هدوء وسكينة، وفي صباح اليوم التالي قرروا الذهاب إلى محافظة القريات مروراً بالحرم النبوي في المدينة المنورة ليدركوا فيه صلاة الظهر والصلاة مع الجماعة وعند وصولهم في الساعة الحادية عشرة والنصف ذهبوا مباشرة إلى المسجد النبوي الشريف ليأخذ كل منهم مصحفا ليكمل ما وصل إليه من سور القرآن الكريم، إلى أن حانت صلاة الظهر فأدوا فرضهم بخشوع وسكينة مع الجماعة وذهب كل منهم ليشتري بعض الهدايا البسيطة والألعاب الجميلة للأطفال.
كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا حين أتموا شراء جميع ما يحتاجون إليه من الهدايا ولعب الأطفال ليحين بعدها وقت العودة للديار، خرجوا من المدينة المنورة، وهنا بدأت تفاصيل القصة المؤلمة في طريقهم إلى مدينة خيبر، حيث كانوا يسيرون في الطريق وكانت أم عبدالمجيد تذكّرهم بقراءة دعاء السفر وتردد (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين....)، ثم أكملت كلامها لتقول (نحن في طريق سفر ولا نعلم عن مفاجآت الطريق، تشهدوا فلعل الله يجعل آخر كلامكم الشهادة)، وكأن قلب الأم دليلها لما سيحدث وما كانت تخشاه، في هذه اللحظات التفت إليها زوجها أبو عبدالمجيد وكأن في عينيه وداع لا لقاء بعده ثم ردد مع أبنائه (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) صمت الجميع ولم يعد هناك سوى صوت الهواء في نوافذ السيارة، ثم عاد كل منهم ليفتح المصحف ليكمل ما كان يقرأه من القرآن الكريم، وفي الساعة الثانية والنصف بعد الظهر كان القدر وملك الموت في انتظارهم حينما اعترضت طريقهم إحدى السيارات، مما أدى إلى خروج سيارتهم عن مسارها ليؤدي ذلك إلى انقلاب السيارة على جانب الطريق وسقط من سقط على الأرض وبقي من بقي في السيارة المنقلبة، رفعت أم عبدالمجيد رأسها وهي ملقاة على الأرض لتنادي زوجها وأبناءها ولكن دون مجيب، نظرت إليهم وإذا بهم قد سقطوا بالقرب من والدهم وهو في وسطهم أجساداً قد فارقتها الروح لتتعانق دماؤهم مودعة بعضها البعض...
أيقنت في قرارة نفسها ما رأتهم عليه فسقطت بينهم لتسجد سجود الشكر وتحمد الله على القضاء والقدر وتدعو الله في سجودها أن يرحمهم ويعفو عنهم ويشفي من بقي منهم على قيد الحياة، كان ذلك المنظر هو آخر منظر رأتهم مجتمعين فيه، مضى النهار دون حراك ولا مجيب لنداءات أم عبدالمجيد وآهاتها واستنجادها وما هي إلا لحظات طويلة حتى جاء الهلال الأحمر ليسعف منهم الأحياء إلى مستشفى الملك فهد في المدينة المنورة...
اتصلت على أخيها لتبادره بالحمد لله والشكر له الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه، على ما كتب لها وتخبره بأنها بخير بعد أن كتب الله لها النجاة من الحادث وكانت تردد مرارا وتكرارا...
(إنا لله وإنا إليه راجعون) سألها شقيقها ما الأمر فأجابته:
على خط خيبر زارني هادم اللذات
فجاني بلا موعد وأنا منه مرعوبه
نظربي بعين وقال لي هلي العبرات
تراني نقيت اللي يناديك محبوبه
نقيت الركاز اللي يعينك على النكبات
عضيدك على الشده يعاونك بعذوبه
ونقيت العيال اللي لهم تسهل الصعبات
وعلى ذكر طاريهم ترى مابهم شوبه
ونقيت البنات اللي يعدن من الزينات
بنات العفاف اللي على الجيل محسوبه
عن اللوم ياحسينه ترى طاوي الصفحات
أمرني بنزع الروح ولبيت مطلوبه
(يتبع)