لا شك أن النَّفس البشريَّة تجد في الكشف عن شيء من أسرار الحياة كعالم المواقع الأثريَّة كلما عاود النّظر في أثر ازداد تعلقه به وتكشفت له جوانب من المجهول الذَّي كان يتوق إلى العلم بها، فعندما يتأمل المرء هذه المواقع التَّاريخيَّة العريقة الَّتي مرَّت على الأمَّة في ذلك الوقت (أمثال غار حراء) الَّذي كان له دور كبير وبارز وفعّال في ذلك العصر، فالحديث عنه ذو شجون حيث إنه يعتبر من أهم الأماكن التَّاريخيَّة في تاريخ الأمُّة الإسلامَّية ومن اللحظات المفصلية في حياة نبي الأمة محمَّد صلوات الله وسلامه عليه في سيرته ورؤيته، فقد اختار هذا الغار لحكمة إلهية وذلك عندما رأى أن هَذه الديانات التي تفد إلى مكَّة المكرمَّة في ذلك الوقت وفيها زيغ وزيف آن الأوان أن يتحرر من هذه الدّيانات التي يراها بأم عينيه يومياً باطلة فكرياً وأخذ يبحث عن وسيلة يخلو بنفسه عن هؤلاء القوم، وقد اختار هذا الغار الَّذي يدعى (بغار حراء) بالذات لا يبعد أن يكون نتيجة لاتصاله بهذا الزعيم الروحي الذي كان رائد طائفتي الأحرار والحنيفية على حدٍّ سواء.
وهو السيد زيد بن عمرو بن نفيل الذي كان يتعبد في غار حراء سابقاً، علماً أن نبي هذه الأمة المحَّمديَّة لا يحب كذلك المجالس التي يطرح فيها اللغو فقد آثر العزلة والتعبد في هذا الغار، وقد ورد على لسان ابن هشام أن نبي هذه الأمة كان يخلو إلى نفسه شهراً كاملاً في كل سنة فيخرج من مكة يودع أهله حتى يأوي إلى غار حراء فيقضي خلوته ويطعم الجائع والمسكين ويتفكر ويتأمل في هذا الكون العظيم ويناجي خالق السماوات والأرض، فإذا انقضى شهره هذا عاد من غاره وطاف بالبيت الحرام سبعاً ثم انطلق إلى داره وتتكرر هذه الظاهرة في نفس هذا الشهر من كل سنة.
فإن زيارة هذه المواقع التَّاريخيَّة الأثريَّة لها شأن كبير عند الأمة لم تكن وقفاً على جماعة معينة فقط وإنما كانت هواية ورغبة تأصلت في نفس كل إنسان مِنَّا حتى أصبحت عنده علامة من علامات الرفعة والسّمو لا يستغني المرء أن يشاهد بأم عينيه هذه المواقع عن قرب.حتى وإن لم يكن مولعاً بهذه المواقع وإنما حباً ومعرفةً واطلاعاً.
لقد اتيحت لي الفرصة المناسبة التي كنت من أجلها تواقاً لزيارة (غار حراء) بمكَّة المكرَّمة حيث يعتبر في نظر الكثير من الزّوار والمعتمرين لبيت الله الحرام أكثر أهمِّيَّة لديهم لما له من مكانة تَاريخيَّة عظيمة فالزائر لمكة المكرمة لأول مرَّة يحرص كل الحرص على زيارة المواقع التاريخية الأثريَّة أمثال غار حراء حيث يقع شرق مكة المكرمة على قمة جبل النور أو جبل حراء، أو جبل الاسلام فكلها مسميات تشير إلى هذا الغار الذي احتضن أشرف إنسان خلق على هذه الأرض فهو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه حيث يرتفع هذا الغار بنحو (830) متراً تقريباً فوق سطح البحر يقصده كثير من المعتمرين بعد أداء العمرة صعوداً إلى قمة هذا الجبل ثم نزولاً إلى الغار قليلاً عندما تقف يميناً أو شمالاً متأملاً ومتفكراً كم من المعاناة التي عاناها نبي الأمة في الصعود والنزول وأنت بجوار الغار تكشف جميع مباني مكة المكرمة العالية والمنخفضة من فوق قمة هذا الجبل العملاق حيث إن الطريق إلى الغار طويلٌ وشاقٌ، وصُخورُه وعرة تمزِّق الاقدام -كله دروس وعبر ومواعظ منتقاة بعناية من خالق السماوات والأرض حتى تتمكن البشريَّة المحمديَّة أن تتعلم كيف كانت المعاناة التي كان نبي الأمة يعاني في رحلة الهداية والرِّسالة هربا وفراراً بإيمانه بعيداً كل البعد عن هؤلاء القوم الذين حاربوه وآذوه في رحلة الصعود والهبوط دروس إيمانية ودلالات ذات أهداف بعيدة المدى، فالصعود إلى غار حراء ليس بالامر السهل الذي يتصوره المرء بل يحتاج إلى قوة بدنية عالية حتى يستطيع الوصول إليه بيسر وسهولة رغم خطورة الانزلاق والصخور الوعرة ذات الفئة المدببة الملساء وطول المسافة.
فأتمنى من كل زائر لهذا الموقع التاريخي العظيم أن تقتصر الزيارة على الاطلاع والمشاهدة والتأمل والتفكر فقط والبعد كل البعد عن الامور التي تدعم النفس البشرية للاستجابة لنزوات عابثة أو نزعات شيطانية طائشة لا يراد منها إلا الخروج على الثوابت الشرعية إلى جانب المحافظة على نظافته وعدم رمي المخلفات بداخله أو الكتابة على جانبيه حتى لاتشوه مظهره الداخلي والخارجي.
والله الموفق والمعين