من أنعم الله عليهم منا بالأمن و الاستقرار في أوطان هادئة آمنة, يتابعون عن بعد ما يحدث للآخرين عبر نشرات الأخبار
وتقارير اللجان الدولية. والمسافرون منا إلى أصقاع العالم المستقرة يفجعون أو يمتلئون تعاطفا وحزنا مع آلاف اللاجئين أو المهاجرين هروبا من نار الصراعات في بلادهم الأم إلى مقلاة المعاناة في بلد اللجوء.. أوالأسوأ، إلى متاهات صحار قاتلة أو أعماق بحار غادرة, رمتهم بها وعود مهربين انتهازيين فقدوا كل حس, إلا الطمع في انتهاب ما تبقى من إنسانية المعذبين.
* * *
منذ بدء التاريخ البشري والعالم يعيش بعقلية النزوح عند قسوة المواسم, جدبا أو حربا, متقبلا وعثاء محاولة الهجرة إلى ربوع جديدة تمنحه فرصة للحياة الكريمة. وقد ينجح المغامرون, و لكن أغلبهم يهلك أثناء الرحلة. و أجزم أن الناجحين يظلون في أعماق مشاعرهم ينتمون إلى ذلك «الوطن» البعيد الذي غادروه باختيارهم أو مكرهين.
كانت الهجرات تمارس قديما لأسباب بيئية مفهومة. وبسببها تبرعمت ظواهر الغزو والمستوطنات.. ثم سادت ممارسة الاستعمار.
ومنذ تقلصت حدود الدول في أوروبا منهية امبراطوريات الاستعمار, والعالم كله في كل القارات الأخرى يتقلقل على كف عدم الاستقرار، باحثا عن توضيح او استعادة هويات مكوناته الذاتية, متحررا من الخضوع لحكم أوروبي تحكّم حينا ثم زال.. أو هكذا خيّل لهم !
مع الأسف،كل غروب لاستعمار في موقع ما, ترك خلفه جراحا غائرة قابلة للتقيح، وصراعات بين الفئات المحلية و الانتماءات الاثنية - أو الدينية أو الطبقية أو القبلية أو المذهبية - تجعل الوصول إلى هوية محلية جامعة تحديا لا ينتهي, ومطلبا شبه مستحيل.
في منطقة الشرق الأوسط على مدى امتدادها ما زالت القلقلة وحالة البحث عن هوية, قائمة ومتزامنة مع حالة البحث عن استقرار محلي.
كنا نسمع بفواجع البعيدين الذين أمسوا أرقاما في قوائم ضحايا الحروب الأهلية, أما الآن فنحن نتوجع كل يوم, منذ تراكضت جموع الحالمين إلى سراب ربيع خائن, ونحن نتابع تساقط الآلاف, بل الملايين من مشابهينا دينا وملامح ولغة, في المسافات الملغمة بتساؤلات الهوية, و المسممة بمطالب إثبات الانتماء إلى فئة ما, تعجز في النهاية عن الصمود وحماية من ينتمي إليهامكبلة بإقصاء الآخرين. يتساقط الأفراد في الشوارع بفعل غدر جيران تعايشوا معهم طويلا على أرضية تقبّل هش. و يغرق الآلاف في بحار غريبة تبتلع حلم الهروب من نيران الحروب في أوطانهم.
وعن بعد, نرى مآسي اللاجئين و المهاجرين على الشاشات الفضائية فتعتصر قلوبنا. لا نملك لهم إلا الشعور بالتعاطف الإنساني.
ندعو البشر إلى بناء الوعي ليتوقف استغلال مصائب المحتاجين وتسخيرها لخدمة مصالح الأفراد. وندعو الله إلى هداية الجميع ليتفهموا معنى المسؤولية, وقيمة الأمن والاستقرار والثقة الصادقة. وقبل كل ذلك ندعو أنفسنا إلى الاتعاظ بما نراه من آلام الآخرين فلا نشعل أتون القلاقل ونحرق في النهاية مظلة الحياة الآمنة.