كصاحب عمل لك أن تضع من الشروط ما تشاء أمام طالب الوظيفة، وله في نفس الوقت حق القبول أو الرفض. إن ناسبته الوظيفة بشروطها حياه الله وإن لم تناسبه فالله يسهل عليه. هذا أمر مفروغ منه لكن لا بد أن تكون الشروط مقبولة ومعقولة وفي السياقات المتعارف عليها.
لفت نظري في إعلان أصدره ديوان المظالم بتوفر 33 وظيفة خدمية شاغرة في مختلف المحاكم الإدارية التابعة له أن محكمة المدينة المنورة قد أدرجت شرطاً يبدو غريباً من بين الشروط المكتوبة في طلب التوظيف إذ اشترطت المحكمة على المتقدمين لوظائف المراسلين والسائقين والمعقبين عدم الممانعة في تقديم الخدمات للضيوف مثل صب القهوة والشاي وضرورة توقيعهم لتعهد بذلك، مبررة فرضها لهذا الشرط الصادم للمتقدمين بما جاء في دليل تصنيف الوظائف الصادر من وزارة الخدمة المدينة. التعهد الخطي أصاب كثيراً من المتقدمين بالإحباط، وأدى إلى انسحابهم معتدين بشهادات البكالوريوس أو الثانوية العامة التي يحملونها ورافضين التنازل عن المستوى العلمي الذي وصلوا له.
هؤلاء الشباب لا يرفضون العمل مراسلين ولا سائقين ولا معقبين لكن وبحسب النظرة الاجتماعية يرون أن صب القهوة للناس على اختلاف مشاربهم وفي الدوائر والأماكن العامة من المهن الدونية يقبل بها المحتاج والمضطر لكن من لديه خيارات أخرى لن يضعها في حساباته أساساً فلم يقض شطراً من حياته في الدراسة والتحصيل العلمي ليقف في نهاية المطاف ممسكاً بالدلة والفناجيل. النظرة الاجتماعية ستطارده بشراسة ولن يرحمه الناس، وسيتوقف حاله وترفض العائلات تزويجه لأنهم يحتقرون مهنته وهي مهنة تباشرها عادة شرائح العمال.
صب القهوة لا أعتقد أن سعودياً أو سعودية لم يمر بهذه التجربة إلا ما ندر, ولكنها حتماً تجربة لا تتجاوز أسوار المنزل والمحيط العائلي. الأب يدرب أبناءه على صب القهوة لضيوفه القادمين للمنزل من باب المبالغة في إكرامهم، ويتسابق الصغار على الإمساك بالدلة باليد اليسرى وفقاً للتعليمات المبلَّغة المستلة من الشريعة الإسلامية، حيث لا بد من التقديم باليد اليمنى، ويأتي حمل الدلة باليد اليسرى معضلة حقيقية أمام الصبابين الصغار حديثي التدريب خصوصاً إن كانت من الحجم الكبير، فيظل الطفل واقفاً حاملاً دلته باليسار وسانداً لها باليمين خصوصاً إن كان الضيف من نوعية حنيف والذي بعث الضيق في صدر الصباب، فما كان منه إلا أن يرتجل قصيدة نبطية قال في مطلعها:
خمسة عشر فنجال لحنيف صبيت
ولو هو يروي قربة قد ملاها
حمل أكثر من فنجال باليد اليمنى يحتاج لمهارات فائقة وخبرات طويلة، وعلى مستوى الضيوف يتوقف اختيار الأب لأحد أبنائه ليتولى صب القهوة، فإن كان الضيف مرموقاً ويزوره لأول مرة يعمد لاختيار أفضلهم، وإن كان من حمام الدار كما يقولون، ويعرف «البير وغطاه» فأي من الأبناء يقوم بالمهمة.
الشباب في بيوت أهاليهم يعتبرون تقديم الضيافة للضيوف ومنها صب القهوة شرفاً عظيماً وبراً بوالديهم ويكفي أن هذا العمل يجلب لهم الرضا ويمنحهم المكانة العالية لديهم، أما على المستوى العام فيرون أنه يحط من منزلتهم، لذلك قد أجد العذر للشباب المؤهل أن لا يقبل بمهنة لا تحتاج لمؤهلات عالية قدر الحاجة لتدريب بدائي، ومعرفة بطرق التعامل مع الناس. هذه المهنة عمل شريف لا عيب فيها ولكن الخطأ أن تُطرح لشباب مؤهل يُمكن الاستفادة منه في مجالات أخرى.