ها قد هبت نسائم الخريف بعد أن لملم الصيف اللاهب أيامه القائظة وودعنا. فيما بدأت أوراق الأشجار تأخذ لونها الأصفر معلنة تبدل الأجواء، تمهيداً لقدوم الشتاء الذي يتمنى الكثيرون، وأنا أحدهم، لو كانت له الحظوة وامتداد الشهور بدل الصيف، حيث تهدأ النفوس اختياراً أو جبراً بفعل برودة الطقس،
فتنكفئ على نفسها بحثاً عن الدفء والسلامة. معلوم أننا في منطقة مناخها حاد المزاج أو (متطرّف جغرافياً)، لكن المولى عزَّ وجلَّ يعطي بني البشر الوسائل المعينة ليتكيّفوا مع تقلبات الزمان والمكان.
نعيش في صحراء قاحلة صعبة المراس، إذا هبت الرياح من تلقائها جلبت معها شيئاً من كثبانها وترابها فتلفح وجوه المدن وساكنيها، لاهبةً صيفاً وقارسةً شتاءً.
إنما لمن يتمعن في طريقة تشييد البلدات قديماً في عديد أرجاء الجزيرة العربية وصف البيوتات مشكلة تلك الأزقة الضيقة (ضيقة بمقاييسنا الحالية طبعاً)، وفي تحايل وتطويع قدر الإمكان لسطوة المناخ الصحراوي، يدرك الذكاء الفطري والذي أتساءل إن كان قد تشوّه هذا الذكاء حين أنظر إلى طريقة تخطيط الأحياء في مدننا حالياً. تسمع كثيراً عبارات الشكوى والتبرم من تقلبات الطقس بدءاً من هذه الأيام مروراً بالشتاء وحتى نهايات الربيع، وكأن هذه التقلبات غريبة عنا أو نادرة الحدوث، وينسى البعض أو يجهل أن غبار البناء ودخان المعدات والمركبات والذي أطبق الخناق على رئات المدن وساكنيها أول عوامل اضطرابات الطقس، وهذا ليس حكراً علينا، بل ظاهرة عالمية. وبالطبع تعاظمت لدينا وخصوصاً في المدن الكبرى، بل وحتى الأصغر منها وذلك إثر بدء الطفرة الثانية خلال السنوات العشر الأخيرة، وهذه ضريبة يصعب الفكاك منها، ولكن في غمرة اللهاث والركض لا ينظر المرء إلى التراب تحت قدميه، لأنه لو توقف قليلاً عن ركضه ونظر لتذكّر حاجته الماسة إلى شجرة تظله وتقيه لهيب الشمس، بل وتصد عنه غضب العواصف أو تنقذه حتى من سيل جارف.
لقد كتبت مراراً من قبل ولست أزعم التفرّد في ذلك، كتبت عن آلاف، بل عشرات الألوف من النخيل التي يتم رصها بطريقة فجّة، بل متخلفة في شوارع مدن المملكة، ولا أدري ما هو سبب الخصومة مع باقي الأشجار والتي تحتاجها رئاتنا وعيوننا كما شوارعنا.
لنعيد توزيع النخيل في الميادين والشوارع بدل وضعها الحالي الأخرق والذي يسيء إلى هذه الشجرة ولا يكرمها كما يظن السذّج. أقول هذا وغيره لدوره في تلطيف أجوائنا وترويضها، لأن الطبيعة التي خلقها الله عزَّ وجلَّ ليست بهذه القسوة التي يتصوَّرها البعض ولا العبث الذي يتخيله التفكير الضحل، إنما عبث البشر وفسادهم وطغيان البعض منهم هو الذي أفسد حتى الأجواء {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآية.
إن الغيث يغسل القلوب قبل الأرض، لذا انظر إلى أمزجة الناس وقت المطر، إلى بهجة الأطفال، إلى اهتزاز التراب فرحاً بقبلات الحياة، لتدرك رحمة العزيز الحكيم برغم عبث البشر، فاللهم ظللنا بسحائب رحمتك وأنزل علينا ماء السماء يا ذا الجلال والجود، وطبتم بسلام آمنين.
romanticmind@outlook.comتويتر @romanticmind