أصبحت المطاردة طبعا يمارسه بعض رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشوارع، ويصل في بعض الأحيان إلى درجة دفع المطارد إلى الهاوية، كذلك تثير القلق ردة فعل الشباب الجدد بالهروب مهما كلف الأمر من قبضة رجل الهيئة، و قد يكون ذلك نتيجة العنف الذي مارسه بعض رجال الهيئة ضد الشباب عبر الأجيال، منذ أن تغيرت في الثمانينيات الميلادية أساليب الهيئة من الموعظة الحسنة إلى أسلوب مطاردة المخالفين للسلوك القويم حسب تقديرهم الشخصي، وقد يمثل أيضاً حالة تمرد على بعض الممارسات السلطوية المتناقضة من قبل الهيئة تجاه المجتمع.
لذلك أجد حادثة مقتل مواطن وإصابة آخر بسبب مطاردة من قبل رجال الهيئة نتيجة طبيعية لما يحدث في شوارع الرياض منذ عقود، ولم يتضح إلى لحظة كتابة هذا المقال سبب المطاردة، وما هي التهمة التي مات بسببها أحد المطاردين، وهو ما يفتح باب ضرورة إصدار نظام عصري ومفصل لمخالفات نظام الهيئة، يتوافق مع روح العصر وفيه إيضاح تام لأبعاد الحرية الشخصية في المجتمع، وهل يوجد بالفعل حرية شخصية، أم أن الأمر يخضع للاجتهاد الشخصي، أم أن الموضوع برمته هو تطبيق حرفي لاجتهادات عفا عليها الزمن لم تعد صالحة للتطبيق في القرن الواحد والعشرين.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الحسبة في الاصطلاح، وكما عرفها الماوردي وأبو يعلى الحنبلي هي: “أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله”، وعلى أساس هذا التعريف فإن الاحتساب ينبني على ركنين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن ما نختلف فيه هو حدود المنكر وتعريفاته وتطبيقاته وأنواعه، وأين تقف حدود حرية الإنسان في هذا العصر، وهل تخضع تطبيقاته إلى الأبعاد السياسية والسلطوية في المجتمع.
في القرون الأولى أدى البعد السياسي في فهم هذه الفريضة إلى اضطرابات وفتن لا يمكن حصرها في هذا المقال، فالخروج السياسي في التاريخ الإسلامي قام على مبدأ فريضة النهي عن المنكر على كل مسلم مكلف، فكان حديث (الساكت عن الحق شيطان أخرس) والذي ورد في مسند الإمام أحمد يحظى باهتمام الذين يرون في النهي عن المنكر فرض عين، كما أوجب حديث (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده..) فريضة النهي عن المنكر عند رؤية المسلم لمنكر، وهو ما فتح الباب إلى نشاط فوضوي بين العامة، و إلى حروب أهلية بين الطوائف، وصلت في بعض الأزمنة إلى إسالة الدماء.
وقد قام الإمام أحمد بن حنبل باجتهاد لاتقاء الفتن في ذلك الزمان وعلى وجه التحديد في مسألة إخراج أصحاب النفوذ من فرض النهي عن المنكر على المسلم، (فإن سيفه مسلول وعصاه)، كما حث مستشاره أحمد بن شيبويه على ألا يدخل على أهل النفوذ وينهاهم، ودخل النهي عن المنكر في دمشق إلى عصر مختلف عن مرحلتي الحنابلة في بغداد، فشيخ الإسلام ابن تيمية كان من أبرز أقواله معالجته لقول الفريضة الواجبة على كل مسلم، عندما رأى إن فعلها البعض سقطت عن الآخرين، أي أنها أقرب لفرض الكفاية، لكن روح اجتهاد الإمام أحمد في البعد عن أصحاب النفوذ ظلت مستكينة في أوامرها ونواهيها، ومنذ ذلك الوقت لم تتبدل فلسفتها الإصلاحية، و ظل يحكمها اجتهاد من زمن آخر.
أيها السادة نحن الآن في القرن الواحد والعشرين، وما يحدث الآن في نظام الهيئة هو تطبيقات اجتهادية لم تعد صالحة لهذا الزمن، كان من آثارها ارتفاع معدلات المطاردة والمواجهة ضد فئات دون فئات، وصلت نتائجها في بعض الحالات إلى القتل، في ظل غياب قضاء يحكم المخالفات المثبتة بتجرد، وما يثير الشبهات حولها اختلاف تطبيقاتها الميدانية، بسبب الاجتهاد القديم، مما أدى إلى صرف الجهود كاملة في اتجاه مراقبة سلوك العامة ومطاردتهم بأعنف الطرق، إن استدعى الأمر، وهو ما أثر سلباً على تطوير مفاهيم الحسبة..
أدى ذلك إلى خروج أجيال غاضبة بشكل غير مباشر، لكنها خائفة لدرجة القفز من الجسر خوفاً من وصمة الهيئة، لذلك ستظل أساليب المطاردة والهروب سلوكا شائعا في الشوارع، ما لم يتم اتباع وسائل أكثر عصرية وقانونية في تطبيقات الحسبة..
