يظهر في ثنايا الحوار عن السلفية ومفاهيمها الاجتماعية المحافظة وأثرها على تطور المجتمع سؤال ملح عن دور النفط فيما يحدث، وهو عن أيهما كان المؤثر الأكبر على مراحل تطور المجتمع نحو المدنية والتنمية، وهل توجد بينهما علاقات فيما حدث من تردد في دفع عجلة التطور؟، وهل كان هناك عوامل ساهمت في تأجيج التفكير السلفي، ولا أعتقد أن أحداً قد يختلف على أنهما قاما بأدوار في غاية الأهمية في تأسيس الدولة في العصر الحديث، لكن النفط ساهم في مراحل متأخرة في تضخم بعض المفاهيم الاجتماعية في السلفية، وكان يغذي ثقافة الانغلاق في درجة كبيرة عند مقارنتها بالدول التي لم يُكتشف فيها النفط مبكراً.
كانت الأهداف الموضوعية تتحدث عن استغلال النفط في تنمية الموارد البشرية ودفع عملية التطور، ونشر ثقافة العمل، وقد حصل ذلك في بعض الاتجاهات، لكن الضغط الاجتماعي والسياسي ساهم في تحويل موارد النفط إلى تعزيزها، وإلى تسخير موارده في إحكام الانغلاق، بل ونشره خارج البلاد، لدرجة أن الشماغ أصبح رمزاً للانغلاق في دول بعيدة جغرافياً واجتماعياً عن المجتمع السعودي، وشهدت مرحلة الثمانينيات استثمارات في نشر هذه الثقافة في شتى بقاع الأرض، ولم يكن ذلك خاصاً بالمجتمع السعودي، فقد شاركت دول أخرى في صرف جزء كبير من موارد النفط في تعميم المفاهيم المتطرفة.
ويمكن تحديد ذلك لحظة التحول الكبير في اتجاه الاستثمارات النفطية لخدمة التطرف بالانفجار الذي حدث في إيران، ووصول المتطرفين الشيعة لسدنة الحكم في إيران بعد الثورة الإيرانية، مما دفع دول الخليج في مواجهة الخطر القادم إلى استدعاء التاريخ للدفاع ضد تصدير المد الشيعي المتطرف، وضخ الأموال في مهمة نشر السلفية كحركة تاريخية سياسية دينية مضادة للمد الشيعي السياسي، من أهم آثارها ما حدث من حروب في المنطقة، وما يجري الآن في حرب شبه إقليمية في سوريا، وهو ما يعتبر أكبر هدر لثورة طبيعية في تاريخ الأمم، وقد تعي شعوب المنطقة هذا الهدر المادي الكبير بعد عقود من الزمن.
كان من تبعات ذلك الاستثمار الأيديولوجي أن سيطرت قوى التقليد في المجتمع، وأدى ذلك إلى صرف اتجاه التعليم نحو الدين، وتخريج عشرات الآلاف من الدعاة بدلاً من التكنوقراط والمهنيين، وكان الكاسب الأكبر قوى الإسلام السياسي بمختلف اتجاهاته المتطرفة، بدءا من الإخوان والسلفية الحركية، وانتهاءً بالسلفية الجهادية، وما أحدثته من انفجارات كبيرة في المجتمعات العربية والإسلامية، ومن ثم تشويه التطور المدني وحقوق الإنسان والحريات العامة، ثم دخول مرحلة أشبه الحرب الأهلية بين قوى المجتمع، كان شرارتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
قد أستطيع القول: إننا لا زلنا نعيش مرحلة انعدام الرؤية في ظل الصراعات الدينية الحالية، والتي ستؤخر كثيراً من إعادة التوازن لتطور المجتمع، يساهم في ذلك عدم وضوح الرؤية حول كيفية مواجهة التطرف الديني في المنطقة، بعد أن أثبتت التجارب أن إحياء الأصولية في مواجهة الثروة الإيرانية ربما لم يكن الحل النموذجي والأمثل، بل كان بمثابة الاضطرار الذي زاد من اشتعال نار الأصولية في المنطقة، وصرفها عن السير في اتجاه التحديث، والذي أصبح بسبب ذلك تهمة تطال المثقفين والتكنوقراط، وتجعل منهم أعداء للأمة وسفراء للتغريب.
أدى تضخم قوى التقليد في المجتمع إلى تسييس الدين، وظهور حركات دينية لها أتباع وجذور، سيصعب إعادة إنتاجها في وقت قياسي، بل ربما خرج الحل من قبضة السلطات الرسمية، وأصبح محصوراً في الرموز الدينية واحتمالات تغيير نهجهم من نشر ثقافة الانغلاق إلى تبني المفاهيم الحديثة، وقد كان الحوار الوطني أحد الحلول التي حاولت نشر ثقافة احترام الآخر، وهو ما كان يعني الاعتراف بالتعددية، لكنه حل لم يصل بعد إلى نتائج ملموسة، بسبب المكاسب التي تحققت لرموز الحراك الديني الأصولي، وما يتمتعون به من سلطات اجتماعية، تعيق الحلول المدنية في الزمن القريب، وقد نحتاج إلى متغيرات كبرى من أجل دفع العجلة في الاتجاه المعاكس.
ولعل المتغير السياسي الأهم والمنتظر هو حدوث ثورة مدنية في إيران، ومن ثم انطفاء حالة العداء بين قوى التطرف الشيعي والسني، ولن يخرج الحل من حدوث التغيير الإيراني من الداخل، ولن تجدي الحصارات الاقتصادية في دفع التغيير في إيران، بل قد يزيد ذلك من توحد القوى الاجتماعية ضد الخارج، وبالتالي استمرار المد الثوري الديني في الدولة الفارسية، لكن ذلك لا يجب أن يوقف دول الخليج من الاستثمار في الإصلاح المدني، والاعتماد على النفط في إحداث الثورة الاقتصادية المنتظرة والمتعددة الموارد، وبالتالي طرح نموذج مدني ناجح في مواجهة جنون التطرف الديني في المنطقة.