كم سجل التاريخ من آثار رجال أفذاذ بقيت رمزاً يلوح في الأفق بتاريخ المملكة العربية السعودية، إنها أحداث جسام ذات آثار براقة ومحامد مترسخة أحدثها رجالٌ بواسل وأعلام شجعان دونت سيرتهم في سجل التاريخ فنرى آثارها على مر الأيام في كيان المملكة إنه الأمن الراسخ والرخاء الواسع فتوحدت به أجزاء الجزيرة بعد أن كانت فرقاً وأحزاباً يعدو بعضهم على بعض.
فبعد التشتت اجتماع ووحدة، وبعد العداوة ألفة ومحبة، وبعد الضعف قوة ونصر، فسارت البلاد بتوحيدها على يد البطل الملك عبدالعزيز آل سعود بخطوات ثابتة مباركة تبني جوانب الحياة فأشرقت شمسه لترتقي في سماء البلاد الشامخة رافعة راية التوحيد سائرة على المبادئ الإسلامية فازدهرت الحياة وازدانت بجميع جوانبها، فأدرك المواطن أن هذا من ثمار التوحيد الخالص والتآلف الحادث بتلك البطولات التي قادها رائد الإنجازات.
ونحن نعيش هذا التقدم والإنجاز في الحياة فإن هذا أحد مدخرات هذه البلاد بل وللأمة بأسرها لأن عزة بلد الإسلام عزة لجميعها وواجب المواطن إدراك هذه الحقيقة والعمل على ترسيخها في أجيال المستقبل لأن المكتسبات حق لكل مواطن واجبه المحافظة عليها والعمل على تنميتها وتطويرها وثمرته ستنعكس عليه بالأمن والرخاء وجلب العزة والقوة بين الأمم.
ومازالت بلادنا تسير على ذلكم النهج الذي خطه مؤسسه وأبناؤه من بعده فسارت بلاد التوحيد في تطور يراه القاصي والداني وتبوأت بلادنا منزلة رفيعة في المنظمات العالمية والمؤسسات المتعددة فَدَوّت كلمتها المسموعة في جميع المحافل، إنه نتاج عما نعمت به البلاد من توحد وقوة ونصرة لكلمة التوحيد {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحج.
والمواطن في بلده جزء من كيان كبير تربى في أحضانه وتغذى بطعامه وشرابه فحق وطنه عليه مناصرته والقيام بواجب المحافظة على مدخراته وإمكاناته والذَّبُ عن حياضه وأركانه، فأهل البلاد أمة واحدة كالجسد الواحد يحزن لما أصابه ويفرح لفرح البلد.
وهذا يأخذ بك إلى عظم منزلة الوطن في النفس البشرية بل أصبح الحنين إلى الأوطان صفة راسخة عند كثير من الناس مهما كان وطنه وفاء لبلده، إنها غريزة متأصلة:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن ضنوا علي كرام
كم كانت العرب تضرب الوصف بقوة الشوق إلى الأوطان والوفاء لها وقد قيل: (من أمارات العاقل بِرّه لإخوانه وحنينه إلى أوطانه) وأيضاً: (يَحِنْ الكريم إلى جنابه كما يحن الأسد إلى غابه).
قال الجاحظ: (الأعراب مع فاقتهم وشدة فقرهم يَحنُّون إلى أوطانهم، ويقنعون بتربهم ومحالِّهم) حتى قالت الفلاسفة: (فطرة الرجل معجونة بحب الوطن).
وهذا أصل في الإسلام فقد كان صلى الله عليه وسلم يحن إلى مكة والمدينة بل ربما حرك دابته إذا قدم من سفر ورأى درجات المدينة حباً لها وشوقاً لدخولها، وتأسف حينما خرج من مكة المكرمة.
وليس من الوفاء ورد الجميل أن يهجر المرء وطنه ويعشق غيره بل قيل: من الحمق هجر الوطن والحنين إلى غيره.
إن بلد المرء كالأم الحنون ربما قست على ولدها لا لشيء إنما لمصلحته، وهي البلاد ربما حدث للمواطن بعض من الزلل أو الخطأ غير المقصود فهذا لا يعني أنه يكون عدواً ينخر في جسمها لأمرٍ ألمْ به، لأنه بهذا يوقع البلاد في فتنة ربما كان هو أول وقودها، فالواجب تحمل مثل هذه الأخطاء الفردية أو التجاوزات العفوية في سبيل حماية كيان كبير(فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، قال الإمام أحمد: (لو أعلم أن لي دعوة مجابة لدعوت بها للإمام)، مع أنه رحمه الله لقي من المأمون ومن بعده أذىً كثيراً.
ولا يخفى على الجميع أن المناداة بالإخلال بالأمن أو الخروج على ولاة الأمر لا قدر الله يودي بالجميع ففي الحديث: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌ منه)، فمن تدبر هذا الوحي السماوي أدرك آثار الفتنة قبل وقوعها، وقال عمرو بن العاص: (يا بنيّ: والٍ عادل خيرٌ من مطر وابل، وأسد خطوم خيرٌ من والٍ ظلوم، ووالٍ ظلوم خيرٌ من فتنة تدوم).
فكم أوقعت فتن التاريخ من تشتت وتشرذم ودماء وجراحات فلا أصلحت الحال ولا أعادت المحال فأصبحت الحال أسوأ حال نسأل الله السلامة.
فالاعتصام بحبل الله يحقق مصالح الفرد والمجتمع فيجني الجميع ثمار الانقياد لأوامر الكتاب والسنة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} (103) سورة آل عمران، ولا تحقرن كلمة تلقيها فترى أنها لا أثر لها فربما تكون شرارة وجدت مترصداً لها أو صاحب هوى فَيزُكي إيقادها فتضطرم نارها فتأتي على الأخضر واليابس.
واحفظ لسانك لا تقول فتبتلى
إن البلاء موكل بالمنطق
قال الشعبي لرجل حَسّن قتل عثمان رضي الله عنه: (شَاركت في دمه) فكيف بمن أشعل فتنةً؟!
وكان السلف أشد الناس احترازاً عن الفتن وإثارتها لئلا يبوؤا بإثمها بل كانوا يعملون جاهدين على إقامة الوحدة وإماتة الفتنة، سُئل عمر بن عبدالعزيز عما جرى بين الصحابة؟ فقال: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون)، ومن ورعه حينما سئل عما وقع في صِفِّين؟ قال: (تلك دماء طهر الله يَدَيَّ منها فلا أحب أن أخضب لساني فيها).
ولنكن معاً درعاً واقياً لبلاد أعزها الله بأفضل معالم الإسلام واحتضنت أشرف رسالة فعزها عزٌ للجميع ومجدها شامة في جبين الأمة، ولا يخفى على ذي لب وعلم أن العمل على ترسيخ الأمن رائد لأداء كل عمل تنموي وعبادي، فلا تستطيع أن تبني وتشيد وتسعى وتصلي وتناجي ربك مع الخوف والاضطراب قال القحطاني:
الدين رأس المال فاستمسك به
فضياعه من أعظم الخسران
وفي الأثر: (يا عائشة أكرمي مزاولة نعم الله فإن النعمة إذا نفرت قلما تعود).
وأخيراً
فلنكن يداً واحدة وأمة مترابطة نأخذ بزمام البلد إلى التقدم والتطور وجلب كل نافع ومفيد ولا تحقرن خطوة في سبيل المصلحة، ففي تعدد المجهودات تزدهر البلاد وتسابق الآخرين والواقع شاهد على ذلك، فالله اسأل أن يديم نعمة الإيمان والأمن وأن يحفظ البلاد وولاة أمرها.