والفجيعة حين يلم أحدنا بالمواقع المحتقنة، أو يلاحق التغريدات المُسِفَّة، فيرى أنّ كل خَلِيٍّ أمَّةٌ بحالها، وأنّ الجميع: نخبة ودهماء في حالة من الارتياب والتوتُّر، دونما أي سبب، يستدعي مثل هذه الشحناء.
هذه الإمكانيات المدهشة، التي لم نخترعها
بأفكارنا، ولم تُصْنَع بأيدينا، ولا على أعْيُننِا، ولم نحسن استثمارها، وسَّعت قاعدة الفضول، وانداحت معها رَقْعةُ الفوضى، إذ لم يَعُد الإنسان مشغولاً بِخُويْصة نفسه، وما كان مستطيعاً اعتزال الناس، وما يمارسون, ثم هو بعد هذا لا يحسن إدارة الأزمات معهم,
هذه الخلطة المستحكمة، والرؤية المقعَّرة، رفعت وتيرة الخوف والقلق، وجعلت الحياة تافهة، لا قيمة لها. فالاطلاع العميق على دقائق الأشياء، يقلل من دَهْشتها، وتكاثرها يقلل من قيمتها، ويُهَوِّن من أمرها، ويحول دون لذّة الاكتشاف، والتوفُّر على ما لم يتوفّر عليه الآخرون, والشاعر يقول:
(فالليثُ ليس يَسِيغُ إلا ما افْترس)
ومن المذمَّة أن يكون المرء قاعداً، يتلقّى طَعامه وكساءه، على شاكلة مهجو (الحطيئة):-
(فاقْعُد فإنك أنت الطاعم الكاسي),
و(ابن عَوْفٍ) - رضي الله عنه - قال للأنصاري المؤاخي: بارك الله لك في مالك وأهلك، دلُّوني على السُّوقِ.
والأخطر من كل التقلّبات، أنّ العُرْي الذي ينتاب شؤون الحياة، ويكشف عن المضمرات، والنوايا المُبيتة، والتلاعب بالمَقدَّرات، طال الأفكارَ، والعقائدَ، وكشف عن سخافة العقل الإنساني، الذي يؤمن بالخرافة، ويُقَدِّس المدَّنس، ويعبد الشيطان، والفرْج، والبقر. ويؤذي الذات، اعتقاداً مِنْه بأنّ ذلك من سُبِل التطهير، هذه التعرية قَزَّمَتْ الإنسان، ووضعته بحجمه القَمِيْء,
لقد كانت دراسة (المِلل والنّحل) وقفاً على العلماء المتخصصين، وكان (علم الكلام) مُتَحَفَّظاً عليه, أما اليوم فإنّ الأجهزة الدقيقة تستحضر للمبتدئين التاريخ، والعقائد، وسائر المشكلات والمتشابهات ومُعْضِل المسائل وشواذها وشواردها، وتُمَوضِع الذات الإلهية وتُغالبُ المغيبات، وتفكِّك كل وجوه الحياة، بكل تفاصيلها، وتتنقّل بالمتابع من عالم إلى آخر في أقل من لحظة، وكأنّ ذلك الجهاز مُنْتسَخٌ من ذلك المخلوق الغريب، الذي أحضر عرش (بلقيس) قبل أن يرتد إلى (سليمان) طرفه.
أفلا يكون ذلك أو بَعْضُه من التحوّلات المذهلة، التي لم نحسب لها بعض ما تسْتحِق؟.
ولولا هذه الإمكانيات المعرفية المذهلة، لما أصاب بلداً - حَفِظَتْ دعوته الإصلاحيةُ جناب التوحيد - دَخَنُ الإلحاد، وتدنيس المقدس، والتفلّت على سلطة: الدين، والسياسة، والمجتمع، ولما وُجِد التطرُّف والإرهاب,
هذه التقلّبات الأغرب من الخيال، جعلت مخلوقاً ضعيفاً مثلي، يعيش حيوات متناقضة، ويختزن ذكريات متباينة، حتَّى لكأني وسط أهلي وعشيرتي الأقربين، غريبُ الوجه، واليدِ، واللسانِ,
فكم هي المسافة بين حياة (نجدية) بدائية، تعيش على الفطرة، وعبر الوسائل البدائية، وبجهود ذاتية، تكاد تقترب من الحياة الحجرية، وحياة اليوم التي تمتلك من الوسائل، والإمكانيات ما لا يخطر على قلب بشر,
إنه زمنٌ غريب، زمنٌ لا يستطيع أحد أن ينفرد فيه بشيء، ولا أن يلفت نظر الآخرين بشيء, تحمل في جيبك جهازاً يحتوي على معلومات، لو مَكَثْتَ مائة عامٍ لاستعراضِها، لانقضت الأعوام، وأنت في أبجدياتها, ذلك فضلاً عما حققته الحقول المعرفية المتعدّدة من طفرات مذهلة، في مختلف جوانب الحياة، ثورات يُكذَّب بعضها بعضاً، ويطمس بعضها معالم بعض, ونظل نردّد {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
السؤال المعضل: ماذا أعددنا لتلك الحياة غير السَّوِيَّة ؟.
كل طفل غَضِّ الإهاب، ضَعيف الجناب، يحمل معه جهازاً يُعرِّضُه لفقدٍ الهوية، ويَصْنعه على عين ليست بعين مجتمعه، فضلاً عن عين أبويه ومعلميه, هذا الجهاز هَمَّشَ البيت والمسجد والمدرسة والمجتمع.
وكل شاب يتوفر على إمكانيات، وآليات دقيقة، بحيث لا تغيب الشمسُ عن مطارح غُدُوِّه، ورواحه, هذه الإمكانيات نحَّت الإعلام والتعليم.
وكل كَهْلٍ يُمسى على حال، ويصبح على نقيضها، على حد يصبح المؤمن كافراً، والكافر مؤمناً، وذلك من أشراط السَّاعة.
وأمام هذه المستجدات أصبحت المؤسسات: الدينية، والتعليمية، والإعلامية (في لُجَّةِ أَمْسِك فلاناً عن فُلِ), لقد استطاع المصلحون الأوائل تغيير وجه الحياة البدائية بإمكانياتهم المتواضعة، ووسائلهم البدائية، بما لا يمكن تحقيق أيسره في ظل الإمكانيات المذهلة، والذين يعولون على البيت والمسجد والمدرسة في تشكيل الوعي والسلوك أشبه بأهل الكهف وَوَرِقهِمْ,
فالدعوة الإصلاحية لـ(محمد بن عبدالوهاب) وما زامنها، أو خلفها من الدعوات المماثلة كـ (السنوسية) و(الباديسية) و(الأفغانية) لما تزل آثارها بادية للعيان، فيما تظل حركات متلاحقة، ومشاريع فكرية متتابعة، يطمس بعضها معالم بعض، لأنَّها هَشَّةٌ مُجْتَثَّة ما لها من قرار .
فأين (القومية) و (الاشتراكية) و(البعثية) التي ألْهت أمَّتنا عن كل مكرمة؟ حتى قال قائلها:-
(آمنت بالبعث رَبًّا لا شريك له
وبالعروبة دِينا ما له ثاني)
بل - أين عشرات المشاريع الفكرية ؟, من أمثال مشاريع (العَرَوي) و(الجابري) و(الوردي) و(الخضري) و(أركون) و(حنفي) وسائر الحداثويين، والعلمانيين، والليبرليين، والصحويين، وسائر المشاريع الفكرية، التي تشبه الأمواج في اليوم العاصف.
ولما تزل المشاريع و(الأيديولوجيات) وموضعة (العقل) و(اللغة) كالماء المنهمر، وكلها تعصف بالذهن العربي، دون أن تجد الإجابة الشافية.
فهل وجد العقل العربي التائه حلاً لـ(الوجود) و(النص والنوازل) و(التراث والمعاصرة) و(العقل والنقل)؟.
ومن قبل شكَّل تخلُّف الأُمّة الإسلامية أسئلة حائرة، عالجها مفكرون معاصرون، من أمثال (أرْسلان) و(البستاني) و(البوطي) و(العرفي)، ومن دونهم (مالك بن نبي) و(المودودي) و(الندوي).
إنه انفصام حضاري، واكب تقلُّب الحيوات، ولما تزل الإشكالية تنداح، وزمن التيه يتواصل, وليس في المنظور القريب مشاريعٌ تولِّدُها الحاجة لا التبعية، لمواجهة هذه التقلّبات, وليس هناك محاولة جادة لوضع (خارطة طريق) تحدد مسار الأُمّة، وتقيها مُضِلات الفتن, فالحيوات تتقلّب والأناسي يتغيّرون، والكُلُّ يخبطون كالعشواء في مفازات يحار فيها القطا.
إنّ إنهاء زمن التيه مسؤولية العلماء، ووسائل (التربية والتعليم)، وأجهزة الإعلام، التي لمَّا تزل تعيش للحظتها,
- فهل أُعِدَّت خُطَّة (استراتيجية) لمواجهة طوفان التقلّبات ؟.
أم أنّ الأمور تسير على البركة.
فإن كان ثمة خُطَّةٌ فالنتائج مُتَواضِعة، وإن لم يكن ثمة خُطَّة، فالزمن يستدعيها بدون تسويف.
Dr.howimalhassan@gmail.com