|
لقد اهتم قادة المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز ومن بعده أبناؤه البررة بتحسين وتوسعة الحرم المكي الشريف؛ ليواكب الأعداد المتزايدة من الحجاج والعمار؛ فأولى الملك عبد العزيز - يرحمه الله - هذا الأمر جل اهتمامه؛ فبدأ في عام 1344هـ بترميم وإصلاح جدران وأعمدة وصحن المسجد الحرام، ثم أمر - رحمه الله - بترميم المسجد كاملاً عام 1354هـ، وبدأ مشروع توسعة المسجد في عهد الملك سعود - رحمه الله - وبالتحديد في ربيع الآخر 1375هـ، وكانت هذه أول توسعة من نوعها منذ ألف وستة وتسعين عاماً، أي منذ آخر توسعة قام بها الخليفة العباسي المقتدر بالله عام 279هـ. وكانت مساحة المسجد الحرام قبل التوسعة السعودية الأولى نحو (28) ألف متر مربع، وسعة المسجد لا تتجاوز (50) ألف مُصَلٍّ، وقد استغرقت التوسعة نحو 10 سنوات.
ثم توالت التوسعات الكبيرة التي شهدها الحرم المكي بشكل لا مثيل له على مر التاريخ، ومنها توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله.
ويعد هذا المشروع أكبر مشروع لتوسعة المسجد الحرام منذ 14 قرناً، ووضع خادم الحرمين الشريفين حجر الأساس لهذا المشروع العملاق في 2 صفر 1409هـ، الموافق 13-9-1988م. ويتضمن مشروع التوسعة إضافة جزء إلى مبنى المسجد من الناحية الغربية، والاستفادة من سطح المسجد الحرام الذي تبلغ مساحته (61) ألف متر مربع، وبذلك أصبح المسجد الحرام يستوعب ما يقارب المليون ونصف المليون مُصلٍّ في مواسم الحج والعمرة ورمضان. وإضافة إلى ذلك، تم بناء مئذنتين جديدتين؛ ليصل عدد مآذن المسجد إلى (9) مآذن، الواحدة بارتفاع (89) متراً.
وبعد ذلك شهد الحرم المكي توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - تلك التوسعة التي لا مثيل لها؛ إذ أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - بتنفيذ مشروع عملاق وتاريخي، يشمل المسجد الحرام والمنطقة المحيطة به، بدءاً بالجهة الشمالية لاستيعاب ما يصل إلى مليونَي مُصلّ في آن واحد. كما شملت التوسعة الساحات الخارجية للمسجد التي تضم المرافق الخدمية، والممرات، والأنفاق، والجسور المعدة لتفريغ الحشود، وترتبط بـ»مصاطب» متدرجة، إضافة إلى الأنظمة الحديثة للتخلص من النفايات، وأنظمة المراقبة الأمنية، كما تم تطوير منطقة الخدمات التي تشمل محطات التكييف، والكهرباء، والمياه، وغيرها من المحطات الأخرى التي تقدم الدعم لمنطقة المسجد الحرام، ويتوقع بعد اكتمال هذا المشروع المعماري الضخم أن تصل مساحة التوسعة إلى (1000.000) متر مربع؛ لتكون أكبر توسعة يشهدها تاريخ المسجد الحرام.
توسعة المطاف
لم يشهد التاريخ توسعة في المطاف كالتي تجري حالياً؛ إذ مرّ المسجد الحرام على مدى العصور بتوسعات عدة من أجل مضاعفة طاقته الاستيعابية للمصلين مع ازدياد أعدادهم، ويبقى صحن المطاف كما هو بطاقته المحدودة على الاستيعاب، يحتل المساحة نفسها، ويعج عاماً بعد آخر بالطائفين؛ وتزداد الحاجة لتوسعته.
ومن هذا المنطلق جاء مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لرفع الطاقة الاستيعابية لصحن المطاف؛ ليضاعف من الطاقة الاستيعابية الحالية التي تبلغ 48 ألف طائف في الساعة لتصل إلى 105 آلاف طائف في الساعة، بتصور يعكس التطلعات والنظرة المستقبلية لحكومة خادم الحرمين الشريفين، خدمة للإسلام وللأجيال القادمة من المسلمين.
ويقوم المشروع على إعادة ترتيب الحرم القديم والتوسعة السعودية الأولى؛ ليتماشى مع توزيع الأعمدة المقترح لتوسعة المطاف، وذلك بتخفيض عدد أعمدة الدور الأرضي والبدروم بنسبة 30 في المئة، وتخفيض عدد أعمدة الدور الأول بنسبة 75 في المئة؛ ليكون إجمالي تخفيض عدد أعمدة الحرم بنسبة 44 في المئة؛ ما يمنح الطائفين شعوراً واضحاً بالسعة والراحة أثناء تأدية الطواف. ويتضمن المشروع إعادة إنشاء الحرم القديم والتوسعة السعودية الأولى وتوسعة المنطقة المحاذية للمسعى لتصبح بعرض 50 متراً بدلاً من 20 متراً بدور السطح، وبذلك يتم حل مشكلة الاختناق التي كان يواجهها الطائفون في تلك المنطقة.
كما يتضمن المشروع إعادة تأهيل المنطقة بين الحرم الحالي والتوسعة السعودية الثالثة، مع إنشاء جسور للربط بينهما في مناسيب الدور الأول والسطح. وقد روعي في التصميم الاختلاف الحالي في مناسيب الحرم، وصحن المطاف، وذلك بتخفيض منسوب الحرم القديم؛ ليصبح بمنسوب صحن المطاف، وتحقيق الارتباط المباشر لبدروم التوسعة الثانية، وكذلك المسعى؛ ليصبح بكامل عرض المبنى الجديد؛ ما يحقق الارتباط والاتصال البصري بالكعبة المشرفة.
وللحفاظ على الإرث التاريخي لعمارة الحرم الشريف بدأت أعمال التوثيق بأشكاله كافة باستخدام أحدث التقنيات لتوثيق أدق التفاصيل تمهيداً لإعادة بناء الأروقة القديمة باستخدام العناصر المعمارية التاريخية نفسها بشكل يتناسب مع التخطيط الجديد، ويتم تنفيذ المشروع على ثلاث مراحل خلال ثلاث سنوات؛ إذ بدأ العمل في شهر محرم الماضي من هذا العام 1434هـ، وتمت إزالة الجزء الأول من المباني خلال الفترة الماضية، وتنفيذ أعمال الإنشاء لهذه المرحلة؛ ما أدى إلى انخفاض ملحوظ بالطاقة الاستيعابية للمطاف من 48 ألفاً إلى 22 ألف طائف في الساعة، وتسير أعمال إنشاء الطواف المؤقت بوتيرة متسارعة من أجل الانتهاء منه بشكل كامل؛ حتى يتسنى للطائفين الاستفادة من هذا المشروع الذي سيرفع الطاقة الاستيعابية لعدد الطائفين في الحرم إلى 35 ألف طائف في الساعة؛ إذ سيكون بعرض 12 متراً.
ويتواصل العمل على مدار الأربع والعشرين ساعة من أجل إنجاز هذا المشروع؛ إذ تم الانتهاء من أعمال البناء وتركيب الجسور الرابطة للدور الأول للمسجد الحرام بصحن الطواف المعلق المتكون من مدخلين رئيسي وفرعي، إضافة إلى مخرج طوارئ يستخدم عند الحاجة، ويحتوي على مخارج مباشرة إلى البوابات في اتجاه باب الملك عبدالعزيز وباب العمرة، والأخرى تؤدي مباشرة إلى المسعى.
وللتقليل من هذه الفجوة في أعداد الطائفين، وخدمة لهم، وحفاظاً على عدم انقطاع شعيرة الطواف خلال فترة تنفيذ المشروع، بدئ العمل على تنفيذ المطاف المؤقت الذي سيرفع الطاقة الاستيعابية لعدد الطائفين في الحرم إلى 35 ألف طائف في الساعة؛ إذ سيكون بعرض 12 متراً، وتم مؤخراً استكمال تركيب الدور العلوي من المطاف المؤقت وربطه بالتوسعة السعودية الأولى عبر الدور الأول وتجهيزه للاستخدام بأمان للطائفين ولذوي الاحتياجات الخاصة من مستخدمي العربات خلال شهر رمضان المبارك لهذا العام، كما تم استكمال العمل في المرحلة الأولى من المشروع مباشرة بعد شهر رمضان المبارك، حتى موسم الحج لهذا العام؛ إذ يتم إعادة تركيب الأسوار المؤقتة والانتهاء من بناء دور السطح، كما سيتم تركيب الدور السفلي للمطاف المؤقت بعرض 10 أمتار، وربطه بالدور الأرضي للحرم.
وبعد موسم حج هذا العام 1434هـ سيُستأنف العمل بإزالة الجزء الثاني من المباني، وانتقال حركة الطواف إلى الجزء المتاح من الصحن والمطاف المؤقت بدوريه الأول والثاني، وتبدأ عندها أعمال الإنشاء للمرحلة الثانية بعد تركيب الأسوار العازلة لمنطقة العمل، مع الإبقاء على بعض الأسوار الجزئية للمرحلة الأولى لأغراض التشطيب النهائي. وبعد حج عام 1435هـ تبدأ أعمال المرحلة الثالثة، وذلك بتركيب أسوار العزل المؤقتة الخاصة بمنطقة العمل للشروع بأعمال الإزالة والإنشاء مع بقاء جزئي لأسوار المرحلتين الثانية والأولى لإنهاء أعمال التشطيب حتى نهاية شهر شعبان من عام 1436هـ. ومع نهاية ذلك العام تكون الأسوار المؤقتة كافة قد أُزيلت مع المطاف المؤقت؛ إذ تكون أعمال مشروع رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف قد اكتملت بإذن الله؛ ليصبح عدد الطائفين في المبنى بدون الطواف المؤقت نحو 105 آلاف طائف في الساعة؛ ما يعني مضاعفة الطاقة الاستيعابية للمطاف.
ويأتي مشروع رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف ضمن رؤية استراتيجية لتحقيق أهداف بعيدة الأمد في حل مشكلة الاختناق التي يعاني منها الطائفون كل عام في المواسم وأوقات الذروة؛ إذ يوفر المشروع انسيابية تامة في الطواف مع مضاعفة الطاقة الاستيعابية للمطاف تماشياً مع التوسعات المتتالية للحرم المكي الشريف. ومن أجل تحقيق هذا الهدف تضافرت جهود الأطراف كافة ذات العلاقة، وسُخّرت كل الإمكانات والطاقات الفنية والمالية اللازمة مع تأمين المعدات والاحتياجات خلال الأشهر الماضية منذ بدء المشروع لإنجاز ما يستغرق إنجازه سنوات، وهي ماضية إن شاء الله لتحقيق الهدف وتوفير الراحة التامة والطمأنينة للحجاج والمعتمرين وزوار بيت الله الحرام لتأدية شعائرهم في جو من الأمان تسوده روحانية المكان شديد الخصوصية عزيز المكانة في قلوب كل المسلمين في شتى أنحاء العالم.
توسعة المسعى
وجّه الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - بتوسعة المسعى بما يتفق والحدود الشرعية له؛ فتضاعف عرضه ليصل إلى 40 متراً، وبلغ عدد الطوابق أربعة، وشمل المشروع توسعة منطقتي «الصفا» و»المروة» بشكل يتناسب مع التوسعة العرضية والرأسية، كما تم تركيب أربعة سلالم كهربائية جديدة من جهة «المروة»، وتجاوزت مساحة المشروع إجمالاً (87) ألف متر مربع، فيما بلغت مسطحات البناء الإجمالية في جميع الأدوار لمناطق السعي والخدمات نحو (125) ألف متر مربع.
كما تم تعديل الممر الواقع بين المسعى ومنطقة السلم المثلث المجاورة للمسعى بالدور الأرضي من المسجد الحرام؛ لتسهيل مرور عربات ذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى تركيب أسوار زجاجية حول جبل الصفا بالدور الأرضي والقبو من المسعى وحول جبل المروة بقبو المسعى، وتركيب أبواب للخدمات حول جبل الصفا في الدور الأرضي والقبو وحول جبل المروة بالقبو.
مشروع جسر الجمرات
شهدت المشاعر المقدسة (عرفات، مزدلفة، منى) في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - مشروعات عملاقة وتاريخية وغير مسبوقة، ويأتي في مقدمتها منشأة الجمرات، التي سهلت على الحجاج أداء نسكهم دون ازدحام أو حوادث تدافع أوقعت ضحايا، بتكلفة (4.2) مليار ريال، وتستوعب أكثر من أربعة ملايين حاج، وتتألف من خمسة طوابق، يبلغ ارتفاع كل طابق (12) متراً، وله (12) مدخلاً و(12) مخرجاً من الاتجاهات الأربعة، إضافة إلى منافذ للطوارئ على أساس تفويج (300) ألف حاج في الساعة، كما يشتمل على كاميرات مراقبة تعمل باستمرار، كما يوجد مهبط للطائرات المروحية لحالات الطوارئ.
مشروع قطار الحرمين السريع
أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بتنفيذ مشروع قطار مكة المكرمة - جدة - المدينة المنورة السريع، بتمويل من الصناديق السعودية المتخصصة.
ويُعتبر مشروع قطار الحرمين السريع ضرورة ملحة في الوقت الحاضر لاعتبارات عدة، من أهمها تنامي عدد الحجاج والمعتمرين عاماً بعد عام، فضلاً عن المعتمرين والزوار والمقيمين الذين يفدون إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة طيلة أشهر السنة، وفي مواسم العطل والإجازات. ويتوقع أن يصل حجم النقل السنوي للمشروع إلى ما يزيد على ثلاثة ملايين راكب سنوياً.
ومشروع قطار الحرمين السريع هو مشروع خط سكة حديدية كهربائي، يربط بين منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة مروراً بمحافظة جدة، بطول 480 كم، وسيتم في المرحلة الأولى من المشروع بناء أربع محطات ركاب، منها محطة في مكة المكرمة، ومحطتان في مدينة جدة في كل من مطار الملك عبد العزيز الدولي ووسط المدينة، والمحطة الرابعة ستكون في المدينة المنورة. وتشتمل المراحل التالية إنشاء محطة في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية.
ويتميز القطار بسرعة عالية، تتجاوز 300 كيلومتر في الساعة، وسيربط كلاً من جدة ومكة المكرمة بخط مزدوج بطول 78 كيلومتراً، وهو ما سيختصر المسافة بين المدينتين إلى أقل من نصف ساعة، في حين يبلغ طول الخط الذي سيربط بين جدة والمدينة المنورة 410 كيلومترات، وسيختصر المسافة إلى نحو ساعتين ونصف الساعة. وسيكون للمشروع دور حيوي في عمليات نقل الحجاج والمعتمرين في المشاعر المقدسة، خاصة في مجال التخفيف من الاختناقات المرورية.