كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الانغلاق والممانعة ضد التطوير، وعن علاقة ذلك بالسلفية، وهو ما يثير التساؤل الأهم، هل الدين المحض هو السلفية؟، أم هما شيئان مختلفان؟، يلتقيان في بعض الأصول، لكنهما يختلفان في كثير من المواضع، وقد أستطيع القول في المقدمة أن مختلف مجتمعات العالم مرت في حالة سلفية، قبل العبور نحو المستقبل، لذلك تمثل السلفية الحالة التي تعتري الإنسان عند القرب من حدوث متغيرات كبرى في حياته، مما يجعله يعترض على تلك التغييرات بمزيد من دعوات المحافظة على الأصالة والماضي.
لكن في الحالة السعودية يعد التفكير السلفي حالة متضخمة لدرجة قياسية عند مقارنتها بالمجتمعات الأخري، وصلت إلى أن تكون في كثير من المراحل الزمنية الأخيرة عائقاً ضد التطور، ولولا تدخل القرار السياسي لما تقدمنا قيد أنملة نحو بعض مظاهر العصرنة في الزمن الحاضر، ولن أحتاج إلى طرح أمثلة، فالتاريخ الحديث للوطن يحكي تلك الصراعات في مشاهد واضحة، وفصول الصراع مع تعليم البنات والاستعانة بالخبرات الأجنبية وفتح البنوك توضح تلك المنعطفات.
لذلك يرى البعض أن السلفية منهج دفاعي في العقل الإنساني ضد الأمور المحدثة، وفيها دعوة للتقيد بنماذج الأمس وبالتقاليد الأصيلة التي كانت مصدراً للاستقرار السلطوي في حياة الإنسان في الماضي، في حين أن الدين منهج رباني يدعو لتطهير الإنسان من الخزعبلات في العبادة، وإلى تنقية العلاقة بالله عز وجل من الرموز الوثنية أياً كانت، لكنه في الجوهر لا يوقف مسيرة الإنسان في البحث عن وسائل أفضل في الحياة، وعن الدعوة للتفكير في ابتكار الأشياء الجديدة.
والأدلة على ذلك كثيرة، يأتي في مقدمتها على سبيل المثال الموقف من الرق والعبودية والتي كانت مشروعة في سالف الأيام، وبالتحديد في الأزمنة التي نتمسك بها كحالة نموذجية للحياة، لكن عندما وصل العقل المسلم إلى قناعة أنها لم تعد صالحة في هذا الزمان، وأن الرق يمثل خروجاً عن الفضيلة الإنسانية، يستحق فاعلها العقوبات، تم إلغاءها، ولهذا لا نسمع في الوقت الحاضر دعوات للعودة لممارسته لحجة أنها مشروعة في زمن السلف.
لذلك تدخل كثير من الممانعات ضد التطوير في الوقت الحاضر ضمن منهج التفكير السلفي الذي يخاف إلى درجة الرعب من التغيير، في ظل عدم وجود تأصيل شرعي لتلك الممانعات، ومنها المثال الأشهر وهو الموقف من قيادة المرأة للسيارة، ومن عملها في الحياة العامة، والذي يعتبر حالة سلفية بامتياز، لأنه قرار يفتقر للنص الشرعي، لكنه تم استدعاء تحريمه بسبب الخوف من حدوثه، ويدخل في ذلك كثير من المتطلبات الاقتصادية والسياسية والإدارية، التي تواجه ممانعة عقلية في ظل عدم وجود تأصيل شرعي يمنع التقدم نحوها.
يدخل في ذلك أيضاً الموقف من الإنجاز كمعيار للأفضلية في المجتمع، والذي يواجه أيضاً ممانعة سلفية عقلية، لذلك تم استدعاء القبيلة والعائلة والموروثات الاجتماعية والثقة كحالات سلفية تمانع أن يكون الإنجاز هو معيار النجاح والتفوق في المجتمع، لهذا السبب تم استدعاء التاريخ الشعبي بكل رموزه ومفرداته من أجل ترتيب مقاييس الأفضلية في المجتمع، وتم تمجيد القبيلة كحالة سلفية محمودة، وتم إعادة رسم أشجار العائلات، وتاريخها من أجل نيل الثقة وامتياز التفوق، وذلك ليس حالة خاصة بالمجتمع السعودي، وقد مرت فيها دول غربية.
لفت نظري دراسة حديثة تتحدث أن نسبة الملحدين في المملكة العربية السعودية! تضاهي نظيرتها في بلد أوربي غربي مثل بلجيكا..!، وتصل إلى نسبة 6 في المائة، وهو ما يعني أن على رموز السلفية مراجعة الخطاب الديني والعمل على تفريغه من التقاليد التي تحولت مع مرور الوقت إلى أصول لا يصح تناولها، في حين أن الدين الحنيف بريء من كثير من تلك المواقف المتشددة من التطور في الحياة العامة.
لهذه الأسباب لابد من التعامل مع السلفية كحالة اجتماعية متضخمة، تستحق المراجعة في كثير من الأمور، لكن بشيء من الحذر، لأن الاستسلام لها، أو مواجهتها بتطرف قد تولد ردة فعل اجتماعية، قد تصل إلى حالة الكارثة، مع التأكيد أن الموقف من بعض ممانعاتها لا يعني على الإطلاق أنه موقف من الدين الحنيف، والملاحظ أن الأجيال الجديدة تبدو في بعض ممارستها خارجة عن التفكير السلفي بسبب التعنت في الدفاع عنها من قبل بعض رموزها، ونتمنى ألا تتطور تلك المواقف المتمردة منها إلى متغيرات لا يحمد عقباها.