في طفولتنا كنا نتقافز فرحاً وطرباً كلما انتقلنا من مدينة لأخرى، نشعر بأشواق تحتدم في صدورنا لرائحة ترابها، وألوان بيوتها، وبساطة شوارعها، وجمعة الأهل، جلسات الشاي بعد العصر، والرحلة للبساتين القريبة، وطعم بذور البطيخ المجففة المحمرة على الصاج، تعدها أمهاتنا وخالاتنا، وقهوة الحليب باللوز عند اجتماع على فرح وترحيب، ودعاء الجدات يلاحقنا عندما نلعب ونجري..
كانت المدن التي نعيش فيها، أو نزورها ونلتقي فيها الأهل، ونمر بها في طرقنا البرية الطويلة قطعاً من قلوبنا، «وطني الحبيب وهل أحب سواه؟»...
الوطن في منزلة الروح حين نسمع إيقاع نشيده نهلل فرحاً، ونركض سعادة، الوطن لنا براءة الحس، وفطرة الشعور.. لا يخالجنا معه غيره فينا..
كبرنا ومعنا تلك الإيقاعات النامية به في صدورنا، نعمل لأجل الوطن، ندرس لأجل الوطن، نكتب لأجل الوطن، لا أذكر أننا كنا نقول: «من أجل أنفسنا».. أمهاتنا وآباؤنا كانوا يغذوننا بمصل الوطن، يعالجون طموحاتنا بأحلام الوطن، يمزجون أهدافنا بمستقبل الوطن، كلماتهم كانت تنحصر فيما يتعلق بالوطن: «لا بد أن تتفوقوا لنهضة الوطن، لا بد أن تتعلموا لأجل الوطن، لا بد أن تعملوا في المستقبل لتقدم الوطن».
كانت المقارنات التي يضعونها أمامنا لنتفكر فيها لا تخرج عن مدارات الوطن: «انظروا كيف يشار لأولئك غربنا بالعلم، والثقافة، ولهؤلاء شمالنا بالإبداع والفنون، ولمن يتفوق منهم في التأليف، ولمن يبرز بينهم في العلوم، وللرعيل الأول من آبائنا ومن سبقهم، أو امتد عنهم، ومن ثم ما علينا إلا أن نتبعهم، بل أرادوا منا أن نحول الأحلام التي تتكاثف في مخيلاتهم إلى شحنات جد في دراستنا، وسهر في قراءاتنا، واجتهاد، وعمل في نهاراتنا، لنصنع مزيداً من المتعلمين بيننا، ومن ثم لينهج كل منا نهجه المتفرد،..كانوا يقولون: نريد الطبيب المواطن، والأديب المواطن، وأستاذ الجامعة المواطن، والمهندس المواطن... وكان أن تحققت آمالهم، وامتدت، ثم تطورت الإمكانات، وتضاعفت المسؤوليات.. وأصبح الوطن أكثر مساسا بمسؤولية أبنائه، حيث تهيأت لهم ظروف أفضل، وفرص أكبر، ومساحات أوسع..ومنجزات أرحب... لحقوا ولحقنا بكثير منها، ونال أبناؤنا منها الأقرب مما يندرج في نهضة الوطن..
اجتهدوا، واجتهد من بعدهم جيلنا.. وتبعنا أبناؤنا، وسيتبعهم أبناؤهم..
لكن، يبقى أن يكون الوطن هو الهدف، والمحور، والمدار..
فلا قيمة لعمل لا يُقصد منه المكمن الأول للإحساس.. برائحة ترابه، وعشبه، ونخله، وسدره، وقهوته... وحنطة وجوه أبنائه..، وفسحة شارعه، وندى ثراه...
أي حب، هذا الحب الذي يتحول في لحظة الصدق إلى أن يكون الوطن هو الذات..
الوطن شعور تلقائي ينساب كالماء العذب في الجوف، ويمتزج بكرياته التي لا يسلم الدم إلا بها..
تماما كما علمنا آباؤنا ألا نتنفس، ولا نفكر، ولا نرغب، ولا نريد، ولا نعمل، إلا ليقال: هؤلاء منه، وهؤلاء يمثلونه.. وهو هم..
هكذا علمونا فعلموهم..!
عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855