بُنيّاتي، ذاتَ فرحٍ كنتُ على ذراعِ أبي، كما أنتُما الآن، صوتُ الطائرةِ يُخيفُنِي إذا اقترب، ويُشعلُ الخيالَ ويُحفزّهُ في داخلي إذا ابتعد.
أنتظرُ الإجازةَ تلوَ الإجازةِ لأذهبَ إلى قريتي الصغيرة (رغبة)*؛ حيثُ ينطلقُ الفتى في داخلي ليحتميَ بالتُراب.
كبُرتُ فتجذّرت رُوحي بهذهِ الأرضِ حتى صرتُ إذا اغتربتُ عن الوطنِ أزدادُ بهِ افتتانًا.
على شاطئِ إحدى المُدنِ الصغيرةِ في جنوبِ شرقِ بريطانيا أطلقتُ لبَصَرِيَ العنانَ أُطاردُ طيفهُ في الأفقِ، وخاطبتُ تُرابَ المدينةِ متحدّيًا:
لكَ القَصَائِدُ غُرًّا حَدْوَ أحْرُفِهَا ~ زَهْوَ الرَّحِيلِ وهَمْسَ الكَفِّ للرَّسَنِ
أيَا الذي امْتَزَجَتْ رُوْحِي بأحْرُفِهِ ~ أيَا تُرَابًا أرَاهُ الآنَ في بَدَنِي
تَرَكتُ فِيكَ أبي .. أمّي .. ومدرستي ~ وإِخْوَتِي .. والأمَانِي الزُهْرُ تَغْرِسُنِي
ومَا انْتَبَهْتُ هُنَا إلا وفِي جَسَدِي ~ نَبْضُ الرِّمَالِ وشَمْسٌ مِنْكَ تَصْهَرُنِي
كَيْمَا أذُوبَ هَوَىً .. وَيْحِيْ أَيَشْرَبُنِي ~ هذا التُرَابُ؟ مَعَاذَ الله يا وَطَنِي
بُنَيّاتي، ليسَ الوطنُ رايةً تُرْفَعُ ولا يومٌ يُحتَفَلُ بِهِ؛ الوطنُ نحنُ بكُلّ جارحةٍ تَتَحَرَّكُ، وكُلّ غَمْضَةِ عينٍ تَرِفُّ. أُوصِيْكُمَا بالأرضِ أنْ تَزرَعَانِها أمَلاً وصِدْقًا وعَطاءً ووفاءً.
لا تَسْأَلا الوطنَ كم أعطى، أو لِمَ جَارَ - إنْ فَعَل، فالوطنُ لا يُحِبُّ لِعَطَاءٍ ولا يَكرَهُ لِمَنع؛ هُوَ قامةُ العِشْقِ وسِدْرَةُ مُنْتَهَاه.
حينَ كنتُ في بريطانيا طالبًا، تذكّرتُ ذلكَ العشقَ فخاطبتُهُ قائلاً:
لتلك التي يَهَبُ الغِيَابُ حُضَوْرَهَا
وإذا تَغِيْبُ تُغَيِّبُ الأشيَاءَ
وَرْدِيّةُ الشَّفَتَينِ يَزْرَعُهَا الهَوَى
في جَوفِنَا، تَتَجَذَّرُ الأحْشَاءَ
مَسْكُونَةُ العَينَينِ بالحُلْمِ الذي
وَأَدَ العُقُولَ وأيقَظَ الإغفَاءَ
في ثَغْرِهَا كُلّ الحِكَايَاتِ التي
تَتَقَاسَمُ الألوَانَ والأضْوَاءَ
خَلخَالُهَا إذْ مَا مَشَتْ تَاجُ الثَّرَى
والرِّيْحُ تَلْثُمُ خَطْوَهَا أَصْدَاءَ
هِيَ كُل ما في الأرضِ لكنْ بَعْضُهُ
وَلَرُبَّ بَعْضٍ يَجْمَعُ الأجْزَاءَ
للقِمَّةِ الشَّمَّاءَ مَمْلَكَتِي التي
يَهْذِي الزمانُ بِمَجْدِهَا مَا شَاءَ
- بلدة في المملكة العربية السعودية تقع شمال غرب مدينة الرياض بحوالي 130 كيلو متر.
عبر تويتر: fahadalajlan@