سألت نفسي وأنا أحلق في عالم الجمال والتساؤل والدهشة والألم من خلال هذا الكتاب الفريد.. كيف فاتني ان أدرس هذا الحقل الجميل وهي الأعمال الأدبية باللغة الإنجليزية؟ كيف تمكنت هذه الباهرة من أن تجمع بين ان تجعلنا تلاميذ مصغين لرواياتها المقررة على فصولها وهي تشركنا في حياتهم وشخصياتهم وصراعاتهم كرواية لوليتا ورواية نابوكوف (دعوة لقطع العنق) وفي ذات الوقت تجعلنا من خلال تفاصيلها الخاصة المدهشة نعيش معها لحظة بلحظة رعب تجربتها كأستاذة في فترة قاتمة من تاريخ الأمة الإيرانية.
آذر نفيسي أستاذة النقد الأدبي في جامعة جون هوبكنز وحائزة على زمالة من جامعة أكسفورد وكتابها هذا هو خلاصة لتجربتها خلال تدريسها في جامعة طهران ثم لاحقاً بعد قيام الثورة الإيرانية في الجامعة الإسلامية المفتوحة وجامعة العلامة الطبطبائي.
تنقل لنا نفيسي ما كان يدور في الجامعة من حروب علنية ومخفية وكيف انهار النظام القيمي الجامعي المتعارف عليه لتتصدر قوانين المحاكمات والاتهامات الثورية كل سلوك أو تصرف أو ايماءة:
(عشنا في كنف ثقافة لا تقيم أي وزن للإبداع أو التميز في عمل أدبي ولا تعده مهماً الا إذا كان يخدم ذلك الشيء الأكثر الحاحاً وأهمية وأعني: الأيدلوجيا. فهذا بلد يؤول كل إيماءة تأويلا سياسيا أياً كانت تلك الإيماءة خاصة أو شخصية. فهم يجدون بأن ألوان ايشارب رأسي وربطة عنق ابي تمثل رموزاً للانحلال الغربي والنزعة الإمبريالية، حلق اللحى والمصافحة مع الجنس الآخر والتصفيق أو الصفير في التجمعات العامة كلها كانت تعد كذلك تقليعات غربية وهي خطة للغرب للتقليل من شأن ثقافتنا ص47).
ص 24 (كان التدريس في الجمهورية الإسلامية مثله مثل أية وظيفة أخرى مرهوناً بالوضع السياسي ومتأثراً بالقوانين الاعتباطية. وكانت متعة التدريس غالباً ما تفسدها الانحرافات والاعتبارات العشوائية التي كان يفرضها علينا النظام بالقوة. فكيف لنا أن نقوم بالتدريس كما يجب حينما يكون أقصى اهتمام لمسئولي الجامعة منصباً على لون شفاهنا وعلى القابلية التدميرية لخصلة شعر يتيمة قد تطيش من تحت الإيشارب وليس على كفاءتنا في أداء واجباتنا العلمية؟ كيف يمكن ان يركز المرء في عمله حين يكون الشغل الشاغل للمسئولين في الكلية هو حذف كلمة (يعتبرونها جريئة أو طائشة) من رواية مقدمة في القسم؟.
آذر تنقلنا إلى حيث رعب الثورة حين تتحول الى وحش كاسر يلتهم أبناءه كما فعلت الثورة الإيرانية حتى شردت ملايين الإيرانيين الاكفاء الى شتي بقاع العالم عدا وطنهم. تصف حال احدى الطالبات ابان صهيل الثورة “ص 318 -320:
“ كان قد مر ما يربو على سبعة أعوام منذ رأيت نسرين الصغيرة.. سألتها وكانت في غاية الإيجاز عن ما مر بها: اعتقلت هي ورفاقها وهم يوزعون المنشورات في الشوارع. تقول: اعدموا الكثير من أصدقائي اما انا فكنت محظوظة فقد حكم علي بالسجن عشر سنوات لتوزيع منشور! هل تذكرين قصة الطفلة ذات الاثني عشر ربيعا والتي اطلقوا عليها الرصاص وهي تدور راكضة في باحة السجن تصرخ وتنادي أمها؟ حسنا لقد كنت معها !!! لقد اعدموا كثيراً من الفتية والفتيات الذين لم يتجاوزوا الثامنة عشرة وكان من الممكن أن أكون واحدة منهم لكن مكانة أبي الدينية قد حالت دون ذلك.. كان لديه بعض الأصدقاء في اللجان فتم استثنائي من الإعدام من أجل أبي، وعاملوني معاملة خاصة ثم قلصوا سجني الى ثلاث سنوات، وكنت ممنوعة من اكمال دراستي لكنهم عادوا العام الماضي وسمحوا لي بذلك تحت المراقبة التي أخضع لها الآن”.
كم تتشابه الديكتاتوريات الدينية في كل مكان.. تقول آذر ص50 “تنتشر في شوارع طهران والمدن الإيرانية الأخرى دوريات لمليشيا تتحرك بسيارات بيضاء من نوع تويوتا وتتكون الدورية من أربعة من الحرس المسلحين (رجالا ونساء) تتبعها أحياناً حافلة صغيرة ووظيفتهم مراقبة الشوارع خشية أن تكون ثمة نساء لا يرتدين الحجاب بالشكل الصحيح أو خشية أن يكن متبرجات أو أنهن يمشين بمعية رجال ليسوا محارم لهن”!!!
من أجمل المقاطع في هذه الرواية هي حيلة الكرسي التي دأبت آذر على استخدامها مع طلبتها حتى يدركوا الأبعاد المختلفة لأي موضوع : تقول في ص 331 :
“كنت أحاول شرح مفهوم الالتباس: فبدأت محاضرتي بأن التقطت كرسياً ووضعته أمامي وسألت طلبتي: ماذا ترون أمامكم؟ فأجابوا كرسيا، ثم قلبت الكرسي رأساً على عقب “والآن: ماذا ترون أمامكم؟ فأجابوا كرسيا ثم اعدت الكرسي الى وضعه الصحيح وطلبت من بعض الطلبة أن يقفوا في زوايا مختلفة من القاعة وطلبت من الواقفين والجالسين ان يصفوا لي الكرسي ذاته: “أترون هذا كرسي”. ولكنكم حينما تأتون على وصفه فإنما تفعلون ذلك وفق منظوركم الخاص ومن زاوية الرؤيا الخاصة بكم من حيث تقفون أو تجلسون. واذاً: هل بإمكانكم القول بأن ثمة طريقة واحدة لرؤية كرسي ما؟ كلا مطلقاً.. فإذا كان بالإمكان قول ذلك عن شيء في غاية البساطة مثل كرسي فكيف يمكنكم بحال أن تمرروا حكماً قاطعاً عن شخص ما، أياً كان هذا الشخص؟.
أليست هذه من أكبر معضلاتنا التي نعيشها اليوم وتنتشر انتشار النار بالهشيم بفعل وسائل التواصل الاجتماعي.. معضلة الأحكام القطيعة والاتهامات العشوائية والتناول غير الموضوعي من قبل الكثيرين لظواهر سمعوا عنها لكنهم لا يمكن ان يقدموا فيها حقائق أو أرقاماً دقيقة، ومع ذلك ينشطون كفاعلين مستميتين لنشرها بأكبر صورة رغم ان الزاوية التي يرون الامر منها لا تتعدى ان تكون زاويتهم الشخصية الضيقة؟ أليس في رواية آذار درس كبير لنا قبل ان يجرفنا قلق المرحلة؟.