من الورم الذي يظنه كثير من الناس شحماً أن يقوم كاتب بإلقاء قناعة تكونت لديه بفعل الهوى، على أنها نقد علمي أو طرح فكري، دون أن يكلف نفسه العناء - ربما للعجز عن ذلك- ببيان فكرته ودعمها بالدليل والحجة والأمثلة التي توضحها. وهذا ما يفرق بين الكاتب الصحفي وبين المفكر والمنظر والعالم. وهذا ما فتح المجال واسعاً في عصرنا لخروج أكثر من مسيلمة كتاب! وأعني به الكاتب الذي يلقي الدعوى مخالفة للواقع ومعارضة للدليل وخالية من أي تحقيق تفرضه أمانة الكلمة ومسؤولية الكاتب.
والأمثلة على هذا كثيرة، لكن من أحدثها وأظهرها ما كتبه الكاتب د. حمزة السالم في مقاله (السلفية على فراش الموت) المنشور في جريدة الجزيرة العدد 14959 ناعياً بذلك السلفية، أو هكذا صورت له نفسه، وهو في الحقيقة لم ينع إلا نفسه! إذ إنه لم يراع في مقاله التحقيق العلمي المنهجي فيما يتعلق بقواعد السلفية ولا ما يتعلق بمراعاة قوانين علم الاجتماع والعمران عند الحديث عن الثقافة والفكر ونشوء التغيرات الاجتماعية. بل كان تحليله سطحياً ومضطرباً، بل ومتناقضاً بحيث يعسر على القارئ أن يقرر هل هو مع الدعوة السلفية أم هو خصم لها. فهو يقرر كلاماً مستقيماً عن الدعوة السلفية وتبني الدولة لها، ثم يدس في أثناء ذلك عبارات تنضح بالسلبية والتشاؤم، وبطريقة لا يستقيم بها السياق، بل ربما تجعله متناقضاً. ما يشعر معه القارئ بأن مشكلة الكاتب مع الدعوة السلفية نفسية لا موضوعية. فالقارئ لا يستطيع أن يعرف هل الكاتب يتكلم عن السلفية أم تطبيقات السلفية -التطبيقات العملية والفقهية- أم النجدية؟ أم خليط غير منضبط من ذلك؟!
والحقيقة أن المقال لم يكن ليدفعني للكتابة مناقشة له، لولا أني على يقين من أنه ستصغى إليه أفئدة وستتلقاه بألسنة نفوسٌ شرقت بدعوة التوحيد، وساءها ما نالته في هذا الزمان من التمكين بفضل الله وما من به عليها من دولة ترعاها. وكثير من الناس عقله -فيما يقرؤه- في عينيه لا يتجاوزهما.
والمقال على قصره حوى تناقضات واضطرابات كثيرة، يصعب تتبعها في مقال قصير، لكن المقصود التنبيه على بعضها بما يتضح به أن المقال لم يبن على فكرة واضحة ولم يقدم حججاً لما يطرح.
وأول اضطراب في المقال قول الكاتب (مدرسة الرأي والدين السياسي ليس لها جذور تقيها من العواصف والانتكاسات، فهي مرتبطة بالأشخاص والحوادث المتغيّرة، فهي كشجرة البرسيم تنمو سريعاً وتزول سريعاً...) فهذا القول صحيح في الجملة، لكن جعله الدعوة السلفية ضمن مدرسة الرأي والدين السياسي غير صحيح. فالدعوة السلفية قائمة على الأثر وتخاصم الرأي، وقائمة على مجافاة السياسة والاكتفاء بالحد الأدنى منها ليقينهم أن السياسة قائمة على المصالح المتغيرة والقابلة للاجتهاد التي لا يحسنها في كثير من الأحيان إلا أربابها. بل إن عنصراً مهما من عناصر خصومة الدعوة السلفية لكثير من الحركات الدعوية في هذا العصر إنما مردة إيغال تلك الحركات في هذه الأمرين: الرأي (في مقابل النص) وتسييس الدين (في مقابل التركيز على الدعوة للتوحيد والعبادة). ثم يقول (...وهذا «أي عدم وجود الجذور وارتباطها بالأشخاص» كافٍ لإطاحة الدعوة السلفية المتجمّدة.)
فعدُّ الكاتب للدعوة السلفية بأنها متجمدة أيضا فيه تجنٍ واضح ومخالفة للحقائق. فتجاوب السلفية مع تطورات الدولة ومستجداتها منذ الدولة السعودية الأولى (وعلى مر العصور الإسلامية، قبل ذلك) أمر مشهود. وهذا لا يعني أنه لا يكون هناك فترات توتر، فهذا طبيعة العلاقة بين الفكر والممارسة من جهة، ومن جهة أخرى ترجع لطبيعة الفئة الممثلة للسلفية في ذلك الوقت من جهة أخرى، وقد يكون هناك سبب آخر يعود للبعد الاجتماعي (السوسيولوجي) للحركات الفكرية والاجتماعية.
الكاتب وإن كان بعد ذلك قد ذكر ما يشير إلى أن الخلل إنما هو في أتباعها وأبنائها، لكنه لم يصب عندما قال إنه (...تسلّط عليها التآكل في أصلها وفرعها، وبقت أغصاناً مجرّدة من الورق والثمار تنتظر من يأتيها فيدفعها فيسقطها في أودية النسيان...) فلا أدري ما الذي يبقى من شيء تسلط عليه التآكل في فرعه وأصله؟! ومن الغريب أن يقول الكاتب إن الدعوة السلفية أغصان مجردة من الورق والثمار مع أنه يرى ويرى كل عاقل انتشار هذه الدعوة وانتفاع كثير من المسلمين بها في كل أنحاء العالم، وما نتج عن ذلك من انحسار للمد البدعي والخرافي بين المسلمين. وهو مدّ بدأ يعود مع التضييق على الدعوة السلفية واشتداد الهجوم عليها حتى في موطنها الأصلي.
وأنا مع الكاتب أن الدعوة السلفية تعاني من ضعف في أبنائها في هذا العصر، وهذا لا شك فيه. لكن الضعف في الأتباع ليس ضعفا في أصول الدعوة ومنهجها. فضعف الأتباع يكون في كل دعوة، حقا كانت أو باطلاً، فضعف الأتباع أو قوتهم لا يكون دليلاً على صحة الدعوة أو بطلانها. فالله سبحانه قال {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (38) سورة محمد فتولي جيل أو جماعة عن دعوة الحق لا يضيرها.
والدعوة السلفية في الدولة السعودية قامت لما قام بها رجال، فيما نحسبهم، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. وضعفت لما خرج فيها قوم يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
والدعوة السلفية، فيما هو فعلاً من السلفية، متجددة باستمرار، بل ذاتية التجدد self-renewing movement إن صحت العبارة. وسر ذلك فيها أن تجددها نابع من أصولها لا بدافع خارجي كما في الدعوات الأخرى.
لكن مشكلة الكاتب أنه ينظر للسلفية من خلال أشخاص، أو يتمثلها في مؤسسة أو مجموعة معينة من الناس، فهو لا يفرق بين السلفية بوصفها منهجاً وبين تطبيقها على الواقع أو ما يظن هو أنه تطبيق لها. وهذا إن صح فهو مشكلة الكاتب لا مشكلة السلفية. ويدل عليه ضربه المثل للدعوة السلفية النجدية بطالبان.
ويقول (فالدعوة قد تخلّفت تخلُّفاً شديداً عن جميع مظاهر التطوُّر الإنساني الهائل الذي حدث في العقود الماضية،...) وكعادة الكتاب من هذا النوع يطلق الكاتب الدعوى دون دليل ودون مثال محدد وواضح. فأين التخلف (الشديد) عن (جميع) مظاهر التطور الإنساني (الهائل)؟؟ نعم هناك جوانب قصور، وهناك مشكلات ربما تسبب فيها تبني بعض الأقوال السلفية، وقد يكون السبب من الواقع لا من الموقف السلفي، لكن هذا يحصل في كل الدعوات وفي كل الدول. ففي أمريكا التي ضرب بها الكاتب مثالا (خارج السياق تماما!) تتسبب لها الحرية التي هي أصل من أصولها بمشكلات كثيرة، اضطروا معها لتقييد بعض الحريات والتعدي على بعضها لأنهم يرون أن هذا المبدأ قد يتسبب في مشكلة، لكن ذلك ليس مسوغا بالنسبة لهم للتنازل عن مبدأ الحرية.
وإنما سر تميز الدولة السعودية أنها واكبت الحضارة الحديثة في إطار من السلفية النقية الفطرية المتجددة. وهذا هو سر تميزها الذي للأسف لم يوفق كتابها وكثير من مفكريها - الذين يصرف عليهم كثيرا (وصاروا عبئا على الدولة!) - لم يوفقوا في بيانه وبناء نظرية تؤسس له كمدرسة في السياسة وإدارة الدولة. وبدلا من ذلك مكثوا يبشرون بسقوط السلفية بل بوفاتها.
يرى الكاتب أن هناك تناقضا بين جسد الدولة (الحكومة) وبين روحها (الدعوة السلفية) وأن الجسد انشق عن الروح وهو ما مكنه من إطالة عمره؟! فهو يقول بعد أن قرر أن الدعوة السلفية روح الدولة السعودية: (هذا التناقض بين الروح والجسد أطال من عمر الدولة السعودية، فلم تنته سريعاً كدولة الطالبان الأفغانية التي طبّقت الدعوة النجدية روحاً وجسداً).
ومقارنة الكاتب بين بقاء الدولة السعودية وسقوط طالبان فيه مصادرة لأبسط أبجديات العقل فضلاً عن السياسة والاقتصاد والعسكرية! فالكل يعرف الفروق الجيوسياسية والاقتصادية والمذهبية بين الدولتين، بما لا يصعب معه التوصل للسبب الحقيقي لسقوط طالبان وبقاء الدولة السعودية. وأسوأ من هذا ربط ذلك بالدعوة السلفية.
ثم يقول: ولكن إطالة عمر الدولة القائم على تناقض الجسد والروح، قد خلق مشاكل داخلية عويصة في فكر وتركيبة المجتمع الإداري والاقتصادي والسياسي لا تُحل إلاّ بالتخلّي عن الروح، وهي الدعوة النجدية. والتخلّي عن الدعوة النجدية هي مطالب كثير من السعوديين السلفيين فضلاً عن غيرهم، ولكن أنى لجسد أن يعيش طويلاً بعد تخلّيه روحه.
وأول ما يلفت الانتباه في هذا القول هو إيراد الكاتب لعبارة (عنصرية) ولو حاول الكاتب غير ذلك! فالدعوة السلفية في وعي الكاتب هي (النجدية)، وربما هذا هو سر الموقف، أو الموقف السري! فالسلفية تتماهى فيما يبدو في وعي الكاتب مع النجدية. وهذه على أي حال دعوى جاهلية تفرق وتوغر الصدور، وهي من الأشياء التي تحاربها السلفية.
والحقيقة أن لا ندري هل الكاتب يدعو للتخلي عن (روح) الدولة التي هي الدعوة النجدية -كما يسميها- التي هي الدعوة السلفية، أم يدعو إلى تطويرها وجعلها تواكب المستجدات. هذا ما لا يوضحه الكاتب، مع أنه الفكرة الأساسية في المقال (إن كان فيه فكرة متماسكة!). فهو هنا يؤكد صراحة على أن حل هذه المشكلة لا يكون إلا بالتخلي عن الروح! ثم يزيد على ذلك بأن هذا هو (مطالب كثير من السعوديين السلفيين فضلا عن غيرهم). ولا يوضح الكاتب من هم هؤلاء الكثير من السلفيين؟ ومن هم أولئك (الغير)؟ لكنه في الأخير سيحصر المشكلة في تطبيقات عملية وفقهية كما سيأتي. وغير واضح هل الكاتب يدعو للتخلي عن الروح مع أنه يقرر هنا أن ذهاب الروح يؤدي ذهاب الجسد؟! فأي جسد سيبقى بعد ذهاب الروح؟!
ثم يقول: (لن تنفع جهود تمجيد الماضي ومحاولات الدفاع عن دعوة الشيخ رحمه الله، بينما التطبيقات العملية والفقهية تثبت عكس ذلك. ومحاولات التمجيد دون العمل على إصلاح ما فسد من الدعوة وتجديدها مع متغيّرات معطيات الزمن، هو صورة أخرى من صور تخلُّف الدعوة وشاهد على جمود فكر أبنائها ..)
الدفاع عن الدعوة السلفية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أمر مطلوب، لأن بقاء الفرع مبني على بقاء الأصل، فما لم يكن ثم قناعة بصلاحية أصل الدعوة - السلفية- فما الحاجة لتطويره؟ فنحن بحاجة للدفاع عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية قناعة منا بأنها وارثة منهج السلف، وقناعة منا -أيضا- بأنها تتعرض في هذا الزمان لحملة تشويه من القريبين منها بل ممن تربوا في أحضانها. حتى وصل الأمر لاستعداء الدولة عليها!
أما ما يذكره الكاتب من جمود فكر (أبناء الدعوة = السلفية) فلا يعالج -إن وجد- بالانقلاب على الدعوة والتخلي عنها والتنكر لها والتأليب عليها ونعيها!!، بل بالرجوع إلى أصولها والتمسك بها وتجديدها وإزالة ما قد يكون علق بها، وهذا أصل من أصول السلفية، وهو روح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ويضيف الكاتب: (الشباب اليوم في يد شبكات التواصل الاجتماعي. وشبكات التواصل اليوم في فوضى فكرية لا اتجاه لها واضح، الذي سيسيطر على شبكات التواصل هو من سيسيطر على عقولهم.) وهذا صحيح، لكن مقاله هذا وكثير من مقالاته تزيد هذه الفوضى الفكرية وتجعل الأمر أكثر التباساً من خلال تشكيك الشباب في مسلمات لديهم دونما حاجة وبلا حجة صحيحة، وهو تشكيك لا يقود ليقين أو يوصل لعلم بل يؤدي بالشباب إلى الرفض والتمرد والإمعان في الشك والتشكيك حتى في الثوابت. فباب الفوضى وباب التشكيك إذا فتحا وتجرأ الشباب عليهما لم يكن من السهل السيطرة عليها. ولا يخفى على الكاتب الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
وتطوير (التطبيقات العملية والفقهية) التي يدعو لها الكاتب لا تكون باللمز في المنهج السلفي ولا في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ووصفها بأنها جامدة، بل، ذلك يكون مرده إلى إصلاح إداري نظامي، لا علاقة له عند التأمل في منهج الدعوة السلفية.
والقارئ يرى أن الكاتب تنقل من الدعوة السلفية إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى النجدية، وشحن المقال بعبارات التهويل والتشاؤم.. ثم استقر مقاله في الأخير إلى (التطبيقات العملية الفقهية)! وهو يعرف أن هذه التطبيقات متغيرة متطورة، وهي تتطور في الدولة السعودية بل تقفز قفزات إصلاحية استجابة لمصالح المجتمع والمقاصد الشرعية منذ أن قامت هذه الدولة المباركة. وهذه الإصلاحات وإن كانت تحدث بتأثير تطورات اجتماعية وسياسية داخلية وخارجية، لكنها أيضا مرتبطة بأصول من أصول السلفية وهي استمرار الاجتهاد وتحقيق المصالح العامة.
إن النصوص الشرعية والماضي والواقع تؤكد على أن الدعوة السلفية قادرة على إقامة دولة عصرية تستجيب لكل متطلبات العصر الضرورية وقادة على التكيف مع متطلباتها الضرورية وفوق هذا قادرة على إبداع أنظمة تحقق مصالح المجتمع وتسمح بالمنافسة مع الدول العصرية الأخرى. لكن المشكلة تأتي عندما تنشأ القناعة بأن السلفية لا تكون صالحة إلا -وفقط إلا- إذا تماهت مع كل المستجدات العصرية ما كان يتوافق مع أصولها أم لا وما كان ضروريا وما لم يكن كذلك. ويعزز المشكلة أيضا أن ينظر للمشكلات الإدارية والتنظيمية وعجز الجهات التشريعية والتنفيذية المدنية على أنها مشكلات نابعة من السلفية.
بهذا نكون نحن -الجسد، بتعبير الكاتب- عبئاً على تلك الروح التي لا تزال -ولن تزال بعون الله- حية متوثبة تبث الحياة في ذلك الجسد، وإن مرض بعض أجزائه وإن خرج فيه بعض الخراجات والبثور. إن اتباع هذا البلد للمنهج السلفي نعمة يجب شكر الله عليها، والسعي للمحافظة على ذلك، لا بالإرجاف بالترويج بزوالها، ولكن بمعالجة أوجه القصور والخلل على المستوى العملي النظري أو على المستوى العملي.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
- د. راشد بن حسين العبد الكريم