أكتب وأنا متألمة جدا فاعذروني..
علمني والدي رحمه الله أن الإنسان الذكي هو من حين يتضح له الصح من الغلط لا يرتكب الغلط، وأن البليد هو من لا يفهم ما هو الغلط ثم لا يتذكر مواصفاته حين يشرحها له من يفهم, ولذلك يكرر الخطأ ويرتكبه المرة بعد المرة.
ولأن ما وضحه لي كان أحد أوائل التعليمات التي تلقيتها في الطفولة الغضة تشربته كما فهمته ببساطة مباشرة.. فحرصت بعدها ألا أكرر الخطأ لأن تكراره علامة غباء.. وأهم ما كان يهمني هو ألا أكون ولا أبدو غبية.
ومع العمر، والتجربة الشائكة تعاملاً مع نوعيات البشر في تقاطعات الحياة, اكتشفت حقيقة مريعة أخطر: هناك من يعرفون الفرق بين الصح والغلط ويختارون بقصد أن يكرروا فعل الغلط لأن فيه فائدة شخصية فردية لهم أو فئوية لصالح جماعتهم.. ويرون في ذلك منتهى الذكاء. فالذكاء في مفهومهم ليس أن تعرف الصح وتلتزم به بل أن تعرف من أين تؤكل الكتف, وكيف تغش دون أن تكتشف؛ سواء كان ذلك في امتحانات المدرسة أو اختبارات الجامعة أو في أداء الوظيفة.
حين يكون المخادعون شرذمة قليلة في عموم محيط بشري يطبق المثاليات يبقى الأمر قابلاً للتصحيح عبر معاقبة هذه القلة الشاذة خاصة حين يترصد لها ويبلغ عنها المواطنون الطبيعيون الذين يرفضون «الغش» و»الفساد» كطريقة متقبلة للوصول. ولكن حين تغري نجاحات هذه الشرذمة الآخرين باحتذاء تصرفاتهم وتبني متقبلاتهم يتورم الوضع إلى إشكالية مجتمعية تحمل الضرر للغالبية, حيث الغش يمسي معتاداً والتخلص من فيروس «الفساد» قضية عامة يعاني منها مجتمع متسرطن الرؤية.
من هنا أستطيع أن أفهم وإن لم أستطع أن أتقبل: لماذا يندد الجميع باستشراء ظواهر التزييف والتزوير واختلاق وثائق لإثبات التأهيل والأحقية بالوظيفة والترقية وما يرتبط بها.. ثم تسقط ورقة التوت عن مسؤولين بشهادات مشتراة, وعلماء وأكاديميين من الجنسين وصلوا مناصبهم في مواقع مميزة بناء على ادعاء تميز علمي ليس له وجود على أرض الحقيقة وبحوث لم يقوموا بها. ولماذا يصرخ الجميع منددين بمساوئ «الواسطة», وفي ذات الوقت يصرون على ممارستها والبحث عنها في حياتهم اليومية, ويجرّمون المطالبين بـ»الرشوة» ومن يتعامل بها, ثم لا يأنفون هم أنفسهم عن البحث عنها والتفاوض حولها والتقايض بها بلا أدنى ذرة من الحياء.
وحين ناقش مجلس الشورى مؤخراً تقرير هيئة الرقابة وتبريراته لتعذر القضاء على الانتهاكات ومظاهر الفساد الصغير والكبير, صدمني احتمال العجز في اجتثاث «الفساد» و»الغش» وتطهير المجتمع منهما بعد أن دخلا في منظومة التقبل المجتمعي فردياً ومؤسساتياً.
عادت أشواك القضية تؤلمني حين استفاضت صديقة إعلامية بتفاصيل خاصة «عمن وثق بهم صانع القرار بناء على تزكيات لمنجزات علمية وارتباطات بمؤسسات عالمية شهيرة اختلقوها لأنفسهم فنالوا بها تعيينات ودعماً مالياً محلياً وأبهة هالة تميز لا يستأهلونها»؛ بينما تؤكد الصديقة المطلعة أنه «حين تأكدت هذه المؤسسات العالمية- التي اعتمدوا عليها في بناء الهالة الشخصية الزائفة- أن منجزاتهم مضخمة ولا تمثل الحقيقة داخلياً أعلنت فض الارتباط وإزالة أسمائهم من قوائمها الشرفية».
قلت لها باقتناع علمي: الاحتمال وارد بصدق ما يقولون أو عدمه. فقد تكون شائعات فردية كيدية.. والتشهير جريمة يعاقب عليها في الوطن وخارجه. ولكن إن كانوا يملكون الإثباتات ومستعدون لتحمل مسؤولية ما يتداولونه سراً فليتقدموا به للمسؤولين مباشرة.
مع هذا ساورني هم الاحتمال الآخر الكئيب: إما أن الأمر لم يصلنا محلياً.. أو أننا لا نستطيع بعد الاعتراف بأن هناك من يغش بذكاء يجعل من الغالبية الأشراف النبلاء الكرماء أغبياء مصفقين وداعمين.