منذ أكثر من ألفين وخمسمائة سنة قال القائد والحكيم الصيني صن تزو بكتابه التحفة “فن الحرب” الذي لا يزال مرجعاً يستلهم منه القادة العصريون: “على القائد الناجح أن يعرف متى يحارب ومتى لا يحارب، متذكراً أن قدرة العدو يمكن عادة تفكيكها دون حرب.”
وإذا كان هذا الكتاب أثر في نابليون كما قيل، فهل تأثر أوباما بالجزء الثاني من مقولة تزو، ورأى بالمبادرة الروسية ما يغني عن الحرب للتخلص من السلاح الكيماوي بسوريا؟ ربما، لكن أمريكا رددت، قبل ثلاثة أسابيع، أن استخدام السلاح الكيماوي هو تجاوز للخطوط الحمراء وتهديد لأمنها، ولا بد من توجيه ضربة عسكرية. وبطبيعة الحال توقع المراقبون حتمية الضربة على خلفية الخطابات الحربية لجورج بوش..
لكن الخطاب الأمريكي الحالي مختلف، إذ تناقضت خطابات الدبلوماسيين الأمريكان بشأن قرار توجيه الضربة من عدمه. وكان ذروة الازدواجية بما ألقاه أوباما في خطابه الثلاثاء الماضي بادئاً بالتركيز على ضرورة توجيه الضربة العسكرية، ولكنه ختمه بالحديث عن الحلول الدبلوماسية! أظن أن الخطاب سيستخدم في فن المراوغات السياسية بالمعاهد الدبلوماسية؛ لكنه حالياً أثار السخرية. ومن السخريات التحريضية ما قيل بأن السيد المثقف خريج هارفرد الدكتور المحامي أوباما “كلما تذكر بأنه حاصل على جائزة نوبل للسلام يتوقف عن العمل ويصاب بالشلل”. ومنذ عام قال بريجنسكي، أحد قدامى عرابي السياسة الخارجية الأمريكية: “لدينا فكرة عن عقيدة أوباما، ولكن ليس لدينا إستراتيجية أوباما..”.
وبغض النظر عن التحليل الذاتي لأوباما، فثمة عوامل موضوعية سببت تردده، فقد انتخب في المرة الأولى بسبب رفضه للتدخل الأميركي في العراق وأفغانستان، وللإرث العدواني الذي رسخه سلفه جورج بوش، وللتخلص من فاتورة الحربين الباهظة التي تجاوزت أربعة تريليونات دولار (تقرير “تكاليف الحروب” معهد واتسون للدراسات الدولية). يقول آين بريمير (خبير سياسي اقتصادي): “إن القوة الأميركية خلال نصف قرن اعتمدت على جيش قوي وسوق هائلة، فأحدهما يمكنه العقاب والآخر يمكنه المكافأة، لكن بينما حافظت على مكانتها في الأول، فإن بقية العالم أصبحت أقل اهتماما به متوسعة بقوتها الاقتصادية.”
لذا رغم أن القانون الأميركي يمنح الرئيس صلاحية خوض حرب لمدة ستين يوماً دون الحصول على إذن الكونغرس، إلا أن أوباما لجأ إليه للحصول على تأييد ممثلي الشعب الذي أنهكته الحروب والأزمات الاقتصادية التي تبعتها، فيما تشير الاستطلاعات بأن غالبية الشعب الأمريكي ضد التدخل العسكري. وذلك قد يفسر جزئياً خطابه المزدوج أي أنه يستخدم خطابا غامضا للحرب ليتخلص من ضغوط صقور الجمهوريين لكنه يلجأ للكونجرس للتخلص من الحرب! هذا أيضاً دهاء يمكن أن يدرس بالمعاهد السياسية!
إذا تجاوزنا أوباما كرئيس صاحب قرار إلى حالة أمريكا كمؤسسات فيبدو أن وعودها بالضربة العسكرية ردعية أكثر منها تنفيذية! فأمريكا متورطة داخلياً بأزمتها الاقتصادية الخانقة ولا تريد مزيداً من التورط بتدخلات خارجية لا تمس أمنها القومي مباشرة.. فهي تئن تحت وطاة أزمة مالية حادة هي السبب الرئيسي في ترددها كمؤسسات في اتخاذ قرار واضح بشأن التدخلات الخارجية. يمكن ملاحظة ذلك منذ تدخل فرنسا وبريطانيا في ليبيا إلى تدخل الأولى في مالي وقبلها في ساحل العاج.. ونلاحظه الآن في تردد الخطاب الأمريكي تجاه ما يحدث في مصر بين العسكر والإخوان.. فالتردد الأمريكي ليس منحصراً بالتدخل في سوريا.
والمسألة ليست مفاجئة، فقد سبق لتقرير “فورين بولسي” نهاية العام الماضي، أن توقع تقليص واشنطن حجم اعتماداتها المالية للتدخلات الخارجية مما سيؤثّر في انكماش النفوذ الأمريكي ويزيد من العزلة الأمريكية الداخلية للأعوام المقبلة، ذاكراً إن الخطر الذي يحدق بالنموذج الغربي عموماً يتمثّل في عجز أمريكا وأوروبا على معالجة قضاياهما المالية والاقتصادية، فرغم أنها أزمات تتعلّق بالشق الاقتصادي، فإن الضعف الذي سيحل بهذين الكيانين سياسي بالأساس.
وأيا كانت الأسباب، فالأهم تقدير النتائج الذي سيترتب عليها تردد الموقف الأمريكي؟ لا شك بأنها حين تقول شيئاً ثم لا تنفذه سيؤثر كثيراً في مصداقيتها. روبرت فيسك الكاتب المعروف بلذعاته سخر بمقاله بالإندبندنت من صورة أميركا بالشرق الأوسط قائلاً إن الصورة تغيرت جذرياً، فدمشق وبيروت والقاهرة كانت ترتجف عندما تتحدث واشنطن، لكنها الآن تضحك إذا صدر أي شيء عن واشنطن. فيما ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن اهتزاز المصداقية الأمريكية قد يشجع إيران على تطوير برنامجها النووي دون خشية من عقاب. أما روسيا فيبدو أنها المستفيد الأكبر حين صار ينظر إليها باعتبارها اللاعب الدولي الرئيسي بالملف السوري، وسيؤدي ذلك إلى تغير في موازين القوى الدولية بمنطقة الشرق الأوسط الذي سيميل لثقل موسكو فيه.
هل جاء دور الروس ليكونوا القطب العالمي المضاد لأمريكا ويعود نظام القطبين كما الحرب الباردة؟ لا يبدو الأمر كذلك، فنظام الدولة الروسي يأخذ ذات الشكل الليبرالي الديمقراطي الغربي وليس كما كان اشتراكياً مضاداً للغرب. إضافة إلى أن ثمة تعددية في القوى العالمية.. فرنسا في أفريقيا، وروسيا في شرق المتوسط وشرق أوربا، والصين في شرق آسيا.. وأقطاب إقليمية تتنامى قوتها الذاتية باستقلال عن القوى العظمى..
لكن لا تزال أمريكا الأقوى عالمياً، إنما أولوياتها تغيرت متركزة على الداخل، وإذا كانت الاستراتيجية هي فن ترتيب الأولويات فإن استراتيجية الخارجية الأمريكية ستنطلق - حسب بريجنسكي- من “أن مفهوم الهيمنة العالمية من قبل قوة واحدة لم يعد مجدياً، حتى بالنسبة إلى الأقوى..” يقول بريجنسكي: “الأولويات هي ما تمليه علينا مواجهة ازدياد الصراع والتوتر بالشرق الأوسط.. وبالعالم نواجه حزاماً حقيقياً لظروف قابلة للانفجار.. وأوروبا هي شريكنا التجاري الرئيسي، وحليفنا العالمي الرئيسي، ولها حيوية كبيرة تؤهلها لتسهم بصورة رئيسية في استقرار الوضع العالمي..”.
الخلاصة، كيف سيكون الدور الأمريكي بالمنطقة؟ سوف تسعى أمريكا - حسب فورين بولسي - لتركيز اهتمامها على الدول المصدرة للنفط داخل منطقة الشرق الأوسط في ضوء ارتفاع الاستهلاك الأمريكي لقطاع النفط والغاز. وكل هذا يشير إلى أن أمريكا ستمارس دوراً أقل خارج حدود أراضيها خلال الأعوام المقبلة مكتفية بدعم حلفائها في التدخلات الإقليمية، وهي ولن تتدخل مباشرة ما لم يمس أمنها القومي..
alhebib@yahoo.com