الحياة ليست سعادة دائمة ولا شقاء دائماً، بل هي خليطٌ يمتزج بين هذا وذاك.. قد يبدو غريباً بعض الشيء لكنه أمرٌ طبيعي.. فبعد قضاء أربعين سنة من العمل الوظيفي، لا بد أن يتقاعد الإنسان من الوظيفة التي يعمل فيها.. فهل التقاعد نهاية مطاف.. أم هو بداية جديدة لمرحلة مختلفة..؟؟ يمر العمر وتركض الأيام ويكبر المرء، ولا يتبقّى في داخله غير شعور واهم، بأنّ عمره العقلي والنفسي هو العمر الحقيقي..
وفي لحظة تَوقُّفٍ وسط لحظات الاغتراب من دوامة معركة الحياة.. يُفاجِئ نفسه بعمره الحقيقي دون أن يسأله أو يُذكِرُه أحد.. فالشعر خطه الشيب وبات أكثر بياضاً، والعينان تُخطئان في تحديد الحروف وفكّ الكلمات، والحركة صارت أقل توازناً، لكن المبررات المُصْطَنَعة والإيهام الخادع يوعز له بأنه لا زال شاباً، لم يدخل بعد مرحلة الشيخوخة أو الكهولة، إلى أن يتلقّى خطابَ التقاعد من رئيسه في العمل، فيختزل في أعماق ذاته المعنى الحقيقي لعبارات الخطاب بعبارة واحدة (نهاية الصلاحية)، فهل ذلك فعلاً نهاية صلاحية لمشوار خدمة وحيوية.. أم فرصة تفرُّغٍ للنفس واكتشاف الحياة من جديد.. وممارسة أنشطة لا يحدّها روتين العمل اليومي..؟
فبينما نجد في مجتمعاتنا العربية أنّ فكرة انسلاخ العمر تبدو مرتبطة بما يتوقّعه الآخرون من صاحبِ قصة مشوارٍ أكثر جدلاً بين مراحل العمر سواء في أسلوب حياته أو صداقاته أو حتى مشاعره.. نجد العكسَ تماماً عند المجتمعات الغربية، حيث لا تُختزل مرحلة التقاعد في كونها نهاية مشوار.. بل هي البداية في انطلاقة جديدة ومختلفة بعد التحرُّر من سطوة السُّلطة الوظيفية وقوانينها وأنظمتها، وحيث المشاعر متحفّزة لمرحلة جديدة من الحياة، ستكون الأجمل والأكثر عطاءً.. فالمتقاعد سيبدأ مرحلة لها منهاج جديد يتلاءم وعمره وقدراته.. كما أنها خطوة مناسبة للاستفادة من تجارب امتدت لسنواتٍ من العمر.. حتى ساسة وزعماء ونخب تلك المجتمعات.. لم يسبحوا عكس تيار إستراتيجية تقاعدٍ ينتهجها أفراد مجتمعاتهم، لأنهم أدركوا أنّ أهميتهم في المجتمع لا تقتصر على كونهم مسئولين، بل مواطنين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.. كلٌّ منهم فرد من أفراد المجتمع، لذا لم يكن التقاعد نهاية مطاف بالنسبة لهم.
كثيرة هي الوجوه السياسية الغربية التي مَنحتْ لهم فرصة التقاعد ممارسة أنشطة اجتماعية وثقافية واقتصادية، فكانت لهم إضافات للمعادلة التنموية الشاملة في أوطانهم ومن خلال مواقع متنوّعة.. والأمثلة كثيرة لشخصيات خطفتهم الأضواء وتربّعوا على كراسي المجد.. وبُنيت على أكتافهم مؤسسات أوطانهم، وبعد تقاعدهم ازدادوا وهجاً وتألّقاً، فكان لهم عطاء من واقع تجربة وخبرة طويلة، وُضِعت بين يدي شباب مجتمعاتهم للإمساك بمعطيات العصر وتتحمّل نصيبها من المسئولية.
عندما تقاعد (نيلسون مانديلا) رئيس جنوب أفريقيا عن مهامه الرسمية كرئيس وذلك عام 1999م، لم تعتريه أوهام برزخ نهاية المشوار، بل انكب على مزاولة الأعمال الخيرية، وعمل أيضاً وسيطاً فعّالاً لحل النزاعات في العالم، إلى جانب أنه كان يقضي جزءاً من وقته لإلقاء المحاضرات حول السياسة والاقتصاد في مختلف أرجاء العالم.. وغيره كثير، لكن الطريف أنّ (ميخائيل جورباتشوف)ظهر بعد تقاعده في مجال الإعلان على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام، وهو يروّج لحقيبة فرنسية الصُّنع، خلال إعلان لشركة فرنسية مشهورة متخصصة في الصناعات الجلدية الراقية.
فلسفة التقاعد في المجتمع الغربي تكمن في (إنْ توقّفت عن وظيفتي فعملي لن يتوقّف)، بينما نجد أنّ فلسفة التقاعد في المجتمعات العربية تتلخّص في (توقُّفي عن الوظيفة هو توقُّف عن العمل)، أما فلسفة العمل والإنتاج فهي الاستمرار، طالما كان الإنسان قادراً على العطاء ومهما تغيّرت المواقع.. والتقاعد ليس نهاية المشوار.
zakia-hj1@hotmail.comTwitter @2zakia