** ابتدأ الجاحظُ كتابه (البيان والتبيين) الذي عدَّه ابنُ خلدون أحد أهمِّ أربعةِ كتبٍ عربية، وجادل المحقق عبدالسلام هارون حول اسمه الذي جزم بأنه (البيانُ والتبيُّن) موثقًا رأيه بمخطوطاتٍ أصلية ومؤكدًا ألا معنى للتبيين بعد البيان إذ يُعبران عن معنىً متماثلٍ لا يمكن أن يقصده أبو عثمان؛ “ابتدأه” بالاستعاذة من “فتنة القول وفتنة العمل والتكلف لما لا نحسن والعُجب بما نحسن والسلاطةِ والهذر والعِيِّ والحصر”؛ فاللهم إنا نعوذ بك منها إذْ عمّت فأعْمت وباتت الحقيقةُ مختطفةً من ذوي الأسواطِ والأصوات فعشيَ الأتباعُ بضلالِ المتبوعين.
** لنا أن نتخيلَ المسافة بين فتن الزمن الجاحظي وفتن زمننا وبين سلاطة قومه وقومنا وهذرهم وهذرنا، ولندعْ فصاحتَهم وعيَّنا ولغتَهم ولغونا وواقعَهم المتحد وكياناتنا المتشظية لتبدو الاستعاذةُ اليوم نهجَ ضرورةٍ ودعاءَ اضطرار، وحين سُئل الخليفة عمر بنُ عبدالعزيز عن رأيه في قتلة أمير المؤمنين عثمان بن عفان أجاب بأنها “دماءٌ كف الله يدي عنها فلا أحب أن أغمسَ لساني فيها”، وفي المعنى ذاته قال الجاحظ: “كان السلفُ يخافون من فتنةَ القول أكثر مما يخافون من فتنة السكوت”.
** ما الذي تغير حتى صرنا نسابق الريح في القول والتقول والخوض في الدماء والأعراض والانتصار لفئام على حساب فئام والتداخل في قضايا مختلطة يهون فيها ما يمسُّ الأشخاصَ والمؤسسات أمام ما يهدد مستقبل الأمة من تحشيدٍ وتأييدٍ وتنديدٍ فرَّقَ ومزَّقَ وصرنا - سواءٌ أكنا قريبين من مواضع التماس أم بعيدين عنها- مهمومين بمواقعنا المَعوية والضدية غيرَ عابئين بما ينتج عنها من دموعٍ تُسفح ودماءٍ تسفك.
** ضاعت هيبةُ الكلمة وتضاءلت قيمةُ المتكلمين ولم يعد بِدعًا أن تجدَ من ينفي اليوم ما قاله أمس ومن يصادمُ موقفُه الأخيرُ مواقفَه الأولى ومن يمدحُ ما قدح ويقدح بما مدح ويتلونُ ثم يتفننُ في التفسير والتبرير وكان يُغنيه أن يتأنَّى قبل أن يتجنى.
** من الإشارات المعبرة التي حفظتْها أدبياتُ “معركة الصريف” بيتٌ من قصيدةٍ تُعزى إلى “أبي جراح السبيعي”:
فوّْهْتْ باخْذةْ نجدْ والعلمْ عنْ مَنْ
تفلِجْ وخصمكْ ما حضرْ للطّْلابَهْ
وهي إشارةٌ ذاتُ مغزى لخصت مشكلة الحاكمين قبل المحاكمة والغزاةِ من غير رؤيةٍ ولا رويةٍ ولا راية؛ وفيهم المنتصرون لقضية دون شهودها وأطرافٍ دون خصومهم ومنهم إعلاميٌ متحيز ومحللٌ غيرُ نزيهٍ ومحبٌ لا يرى المثالب ومبغضٌ تُظْمئُه المسارب وتُشتته المشارب.
** الحق أبلجُ والباطل لجلج، والصوت المرتفع والعزف المتكرر لا يحيلان الافتئاتَ حقًا كما لا يمحوان لغة الحقيقة التي لا تُسوقُ نفسها بكثرة الكلام والخصام؛ فالشمسُ لا تحجبها الضوضاء والغبارُ لا يستحيلُ مطرًا، والخصومة السياسيةُ والمجتمعيةُ والمؤدلجةُ وحتى العلمية والشخصية مشروعةٌ في حدود البحث عن الحقيقة أما موقظو الفتن وموقدوها فسيُعشيهم سرابُ اليباب وتسويقُ الخراب.
** الهدمُ يسير.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon