لو أردنا أن نختار كلمات تختزل أزمة الفكر العربي في العصر الراهن لكانت الأحادية والتقليد، اللذان يشكِّلان العائق أمام حاضر ومستقبل الأمة العربيَّة، ويظهران في المجتمع السعودي في أحد صورهما المتشدِّدة، وعندما نتناول التجربة الغربية في تاريخ الأمم، لأدركنا أن الانتصار الحضاري كان حليف ذهنية التجديد في الفكر الإِنساني، الذي انتصر في معركته الحضارية أمام الأحادية النازية والفاشية والشيوعية، ويدخل الآن في معركة مع الخطاب السياسي الإسلامي، الذي يظهر للعالم في صورة أحادية تعتمد على عنف الخطاب في درجات متفاوتة.
ولتبسيط الصورة أمام العربي المتشنج والمهموم بالفكر الإقصائي القومي والإسلامي، عليه قراءة سيرة الحلم الأمريكي الذي تحقق في حياة ستيف جوب، الذي يجري في عروقه دم عربي، والذي استطاع أن يحقِّق حلمه الشخصي من خلال أفكار تلخص الأيدولوجية الثقافية في الغرب، وهي ألا يتوقف الإنسان عن تحقيق الابتكار والتطوير، وأن سرَّ المحافظة على القمة يكمن في الخروج من التقليد، وهو ما أوصله في سنوات إلى تحقيق المعجزة، ولن يحدث ذلك إلا بوجود بيئة حضارية تؤمن بالمقولة الفكرية الذائعة الصيت، دعه يعمل دعه يمر.
في حين يعاني الشباب العربي من سلطة التقليد والتكرار التي تسيطر على مختلف طبقات الإبداع، وتعمل على تسخير أيّ إنجاز من أجل خدمة الفكرة الأحادية، بينما نعرف جيّدًا من التاريخ أن هذه المبادئ فشلت أولاً في تاريخ المسلمين الأوائل عندما هاجموا التفكير الحرّ، وأقصوا المبدعين في خانة الزندقة بعد أن حادوا عن الخط الأيدولوجي العام، وكان ثمن ذلك سقوط الحضارة، كذلك تكرر ذلك في تجارب الشيوعية والنازية، وفي تجربة كوريا الشماليَّة وتجارب دول العسكر العربيَّة..
ومقالي لا يعني بالضرورة التوافق مع المواقف السياسيَّة الغربيَّة تجاه أمة العرب، التي تبحث عن مصالحها العقلانية عبر استغلال الأحادية التي تسيطر على الوضع العربي، ولكن يدعو إلى مراجعة كثير من أفكارنا المعلبة، وإعطاء الشباب أجواء من الحرية من أجل العمل على تحقيق مجدهم الشخصي من دون إعلان احتكاره من أجل هدف سياسي أو ديني، ولكن عبر منحه الاستقلالية التي حتمًا ستعود بنفعها بصورة غير مباشرة على المجتمع، كما حدث مع ستيف جوبز، فإبداعاته كانت عوائدها في صالح أمريكا واقتصادها وريادتها في العالم، في زمن تشتد فيه المنافسة الاقتصاديَّة مع بقية الأمم.
في المجتمع السعودي يبرز خطاب سلفي متشدِّد يعتمد في أفكاره على مبادئ تَمَّ صياغتها في مرحلة زمنية سابقة، وفي أوضاع سياسية مختلفة، لكن مع ذلك لازالت تطغى على أيّ خطاب آخر، وتكون بمثابة القاضي الذي يصنَّف الناس إما إلى موالٍ أو معادٍ، وهو ما يجعل رهبة التصنيف الأيدولوجي تتحكم في عقليات الشباب، وتستنزف كثيرًا من الجهد الذهني من أجل التكيَّف مع الفكرة الأحادية الصارمة، وهو ما أثبت فشله في تاريخ الأمم المعاصرة، لاسيما أن بعض الأفكار المصدرة للداخل والخارج تُقدم في قالب عنيف ضد المخالف، وسيظل ذلك بمثابة القنبلة الموقوتة في المجتمع.
الليبرالية والرأسماليَّة منتجات بشرية قادت الغرب إلى أن يتحكم في مفاتيح التفوق، لكن مع ذلك لم يتوقف الغرب عن تجديد هذه الأفكار، وربما استبدالها في المستقبل بأخرى لو ظهرت أفكار أكثر فعالية وتمنحهم التفوق البشري، ولن يحدث ذلك لولا الحرية التي توفر للعقول الجديدة الفرصة لإنتاج أفكار أخرى، لعلَّ آخرها ثورة الاتِّصالات التي اخترقت السياج الحديدي الذي نكبل به عقول النَّشء الجديد، ثمَّ حوّلتهم إلى أفراد مستهلكين للإبداع التَّقني الغربي، ولكن عاجزين عن مجاراته في ميدان الابتكار والتجديد، وكما قيل فاقد الشيء لا يعطيه.
نحتاج إلى مجدِّدين في الفكر السلفي، وذلك من أجل إخراجه من تلك الصورة القاتمة عنه، التي تظهر في بعض صورها في قالب أحادي تكفيري وتفجيري عنيف، وربما نحتاج إلى ابن تيمية آخر من نفس المدرسة، ولكن يفهم ضرورات العصر، ويخرجها من تقليد المشائخ، ويقدّم اجتهادات تقلّل من السلطوية الدينيَّة التي ورثناها عن الشيخ الأول في المدرسة السلفية، ويفتح الباب أمام فكر عصري يضع التجديد والابتكار لبنة أولية في الخطاب الجديد، التي قد تتحقق لو نزعنا من الخطاب شعاره الحالي، الذي يفرغ عقول الشباب من حافز العمل، ويجعلهم مُجرَّد أدوات في الخطاب الشمولي.