«تصدق .. ما عرفت شخصية أبوي إلا يوم سافرنا»
كانت هذه العبارة الطريفة المعبرة على كاريكاتير منشور في جريدة «الجزيرة» ومرسوم بقلم المبدعة منال وذلك يوم الأحد الموافق 2 سبتمبر 2013 خير شاهد على الأسرة السعودية الحديثة والتي تمر بتغيرات عميقة في بنائها
ووظائف أفرادها بما أثر على ديناميكيات التفاعل داخلها بالدرجة التي ربما يهدد أدائها لوظائفها الحيوية وقد يحيلها إلى صورة منمطة غير حقيقة ويعيق أفرادها عن أداء أدوارهم بالشكل الذي يحفظ استقرار العائلة وهي المكون الأساسي للمجتمع بما يحفظ استقراره وسعادة أفراده.
ومن الملاحظ أن تحولات عميقة طرأت على الأسرة السعودية منذ ظهور النفط والذي مكنها من الانتقال من نمط الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية بتمكن الزوجان وهما النواة الأساسية لخلية الأسرة من تحمل أعباء المعيشة غير مضطرين للارتباط بالأسرة الكبيرة للأنفاق عليهما أو مساعدتهما في رعاية الصغار بعد تمكن هذه الأسرة من دفع أجرة العاملة المنزلية أو الروضة لرعاية أطفالهما وهو ما يعني أن عوالم أخرى بدأت تتدخل في تربية وتوجيه الأطفال أي في وظائف الأسرة وهي تقديم الرعاية المباشرة للصغار وتوجيههم لتتحول هذه المهام إما بشكل غير مدروس ومخطط كما في حالة العاملة المنزلية التي يوكل لها رعاية وتأكيل وتوجيه الصغار دون أن تعطي تعليمات واضحة ودون دراسة أو خبرة أو أن تكون متخصصة كما في حال معلمة الروضة مثلا التي لا يتم توظيفها إلا بحصولها على شهادة تخصص في مجال رعاية الصغار عقليا ونفسيا وسلوكيا.
في كلا الحالتين تدخلت مؤسسات وأفراد خارج نطاق الأسرة في وضع المعايير المختلفة وتربية الطفل عليها مما يمثل تحديات قد تكون جيدة وفي صالح الطفل كما في حال معلمة الروضة وبعض معلمي التعليم العام أو سلبية كما في حال بعض العاملات المنزليات.
وأدت أنماط الحياة الحديثة سواء في مجال ساعات العمل الطويلة وخاصة في القطاع الخاص إلى انصراف الوالدين أو أحدهما لفترة طويلة عن العناية بأحوال الأسرة فبعد أن كان الأب يحرث قرب داره ويلعب صغاره حوله ويعينوه متى استطاعوا وهو أيضا حال الأم تكونت في العصر الحديث مؤسسات مستقلة للعمل بعيدة عن المنزل وتتطلب الانقطاع الكلي عن البيت لساعات لا تقل عن ثمان يوميا ويمضي الأطفال ما يشابهها في المدارس ليعود الجميع إلى المنزل الذي ساعدت وفورات النفط على توسيعه بشكل يحد من التفاعل المباشر بين أعضائه إضافة إلى ملئه بأجهزة تلفزيونية في كل ركن وهكذا تحاول العائلة بعد الظهر أن تلم أطرافها فإن كان أفرادها محظوظين تناولوا وجبة غداء مشتركة أو أن تفرقهم أوقات العمل والمدرسة فيلتقط كل واحد منهم ما أتيح له من طعام وبفضل التقنية الهائلة يختفي كل واحد فيهم إلى غرفته وأجهزته ليقلبها أو ليغفو حتى يقبل الليل فتبدأ المناسبات الاجتماعية التي يجب على الأسرة إتمامها وتحديدا الزوجة ويساعد وجود العمالة من خادمة ترعي الأطفال وسائق يوصل المدام لأن نلبي هذه الاحتياجات من زيارة ولادة أو عزاء أو عيادة مريض أو تلبية دعوة عشاء فيما يفرغ الأب نفسه خلال المساء لما هو أهم وهي جمعة الأحد ثم شلة الاثنين ثم البلوت الأربعاء وهكذا تختفي مهام الوظيفة الأساسية التي وجدت الأسرة بسببها وهي رعاية أطفالها وتوجيه مراهقيها لتترك للخادمة وللمعلم وللكمبيوتر وللفيس بوك وللتوتير في حين يختفي أفراد الأسرة من هذه المعادلة الاجتماعية المغرقة في الاغتراب؟ فأين نحن إذن من أبنائنا؟
.. لذا لا غرابة أن نجد أن إحدى صعوبات السفر التي يصطدم بها السعوديون حين يسافرون هي في التعامل مع بعضهم البعض كأسرة في مكان يكون أصغر في العادة من بيوتهم في البلد الأصلي واضطرارهم إلى القيام ببعض وظائف الأسرة كرعاية الصغار أو شراء المقاضي إذا كانت الأسرة في شقة مفروشة وهكذا تبدأ التوازنات والمشاحنات التي كان نمط الحياة السعودية لا يبالي بها لنجتمع تحت سقف صغير في بيئة تجبرنا على البقاء مع بعضنا دون أصدقاء أو أقارب لمدة زمنية تطول أو تقصر لتبدأ جبال التعرية والمجاملات أولا ثم المشاحنات ثم الاصطدامات ثم الترضية (وخلونا نخلصها على خير)!!! وحال الأب يدمدم: وهل بعد كل هذه الغلبة والصرف وركضة الحجوزات والفيز والمطارات والأوتيلات وها (ما عرفت أمك تربيك أصلا)!!! أو أن يري الأبناء الأب يركض مثل الطفل خلف الجميلات أو أن تحزن المراهقة وتغلق على نفسها الغرفة فكيف بصديقاتها كلهن يتجمعن في شارع كذا ويلبسن كذا وأنت (تقتر علينا)!! أو أن يخفض (محمد) حواجبه خجلا من رؤية صديقه العابر لأمه وأخواته التي لا يعرفن عن عالمه في السعودية شيئا بسبب عوالم الرجال والنسا المفصولة اجتماعيا فالأب لديه أصدقاؤه والأم لديها أهلها وصديقاتها والبنت لديها صديقاتها والمراهق لديه أصدقاؤه الذين لا يعرفون أهله ولا يجب أن يروا محارمه طبقا لمعادلة الفصل الجنسي المتبعة في المجتمع.
مسلسل من التناقضات الغربية التي يندر أن تجدها في أسر أو مجتمعات غير خليجية حيث يشترك الأب والأم مباشرة في كل صغيرة وكبيرة تعني بيتهم وأطفالهم ويكون ذلك حقيقيا في البلد الأم كما هو في السفر في حين نبدو غرباء ومتوجسين من قرب المسافة المكانية والجسدية لبعضنا البعض والتي لم نعتد عليها نحن المعزولين عن بعضنا البعض بفعل المساحة والأجهزة والعزل الجنسي لكن لعل هذه الأسفار تكون كالوخز لتذكرنا دائما بأننا نفتقد بالتدريج ذواتنا وأطفالنا وأسرنا في خضم استسلامنا لطوفان النفط والعزلة الاجتماعية الجبرية بين الجنسين.