عبر تاريخها الطويل المسجل والمنقول لم يرد اسم عالم واحد في جزيرة العرب غير متخصص في العلوم الشرعية. لم تنتج هذه الجزيرة منذ القدم عالماً واحداً له أبحاث علمية عميقة حول الإبل أو النباتات الصحراوية أو الاستمطار أو استزراع المحاصيل في البيئات شحيحة الأمطار أو الاستفادة من الشمس لتوليد الطاقة على الأقل للطبخ أو للتدفئة بالشتاء، أو تحويل جريد النخل إلى شيء ما أكثر فائدة من كنس الأحواش والاستعمال كدسيسة تحت الحطب لشب النار، أو البحث عن خلطة بناء من مكونات الأرض الطبيعية تكون أفضل مقاومة للأمطار المفاجئة من خلطة الطين والتبن التراثية، أو على الأقل صنع شيء ما يدور على عجلات وتسحبه الإبل والحمير والبقر بدلاً من تحميل الأشياء على ظهورها.. إلى آخر الاحتياجات الماسة لجعل الحياة أسهل قليلاً مما هي عليه.
الشاهد أن كل ما هو موجود في صحراء العرب بالكامل من إضافات صناعية وزراعية ونسيجية وتواصلية وعلاجية مستورد من الخارج، ولم يساهم فيه أهل هذه الصحراء بشيء علمي يذكر.
ما زالت ترن في أذني منذ أربعين سنة خطبة الجمعة التي أكد فيها الخطيب الشاب أنه لا يوجد علم واحد يستحق أن يسمى علماً سوى العلم الشرعي. الطب والهندسة والرياضيات والكيمياء والفلك كانت في رأي ذلك الخطيب وحسب فهمه ليست علوماً مهمة وإنما مجرد اجتهادات دنيوية لا تقدم ولا تؤخر في مسيرة الإنسان نحو الآخرة. منذ ذلك الحين لم أعد أتعجب حين أدخل مجلساً فأجد فيه الشاب حامل الشهادة الشرعية يتصدر المجلس بينما حامل الأستاذية في الطب والهندسة والكيمياء يجلسه القوم كيفما اتفق رغم فارق السن الكبير بين الاثنين.
في أحد الأيام دخل إلى غرفة الكشف في عيادتي الطبية رجل يطلب المشورة، وفوجئت به يبادرني قائلاً: والله إني أعلم أن في العسل والحبة السوداء ما يغني عن طبكم الحديث، ولكنهم ذكروك لي بالخير ونصحوني باستشارتك. لن أقول حول ما جرى بعد ذلك سوى أنني أعدت إليه رسم الكشف الطبي ورفضت الفحص عليه. لأن أفضل علاج لأدق تشخيص لا يفيد إن لم يكن المريض مقتنعاً بتناوله ومتفائلاً به.
خطبة الجمعة تلك وانتقاص ذلك المريض لفوائد الطب الحديث، بالإضافة إلى مواقف كثيرة تتكرر في عيادات الأطباء، جعلتني كثير التفكير في خلو هذه الديار الصحراوية من العلماء الدنيويين بالكامل. وجود جراحين ومهندسين واستشاريين في مختلف التخصصات العلمية من أبناء هذه البلاد، لا علاقة له مطلقاً بجهود أهلها في استنبات العلوم بأنفسهم، لأنهم مجرد نقلة يدرسون علوم الآخرين ويطبقونها محلياً، لكنهم لم يضيفوا إليها أي جديد حتى اليوم. بتركيز أكثر، لم تتبن هذه الصحراء أي علم دقيق ولم تقدم أي أبحاث علمية محكمة تتعامل مع إمكانيات الصحراء ومشاكلها واحتياجاتها.
العلم الوحيد التي ساهمت فيه عقول أبناء هذه البلاد هو العلم الشرعي، وهو علم تنزلت أصوله بالوحي الإلهي، ولا دخل لعقل الإنسان فيه إلا بمحاولات التجديد الفقهي حسب الظروف، وهو علم لا غنى عنه، لكنه محدود الفائدة للتعامل مع الجوع والعطش والبرد والكوارث الطبيعية.
إذاً حسب رأيي المتواضع، لم يجتمع حتى اليوم علمان في جزيرة العرب، فما هي الأسباب؟
لدي إحساس كامن بأن عقلية التنافس على المكانة واللقب لدرجة الاقتتال على الماء والكلأ وزعامة القبيلة والحصول على أكبر قدر ممكن من الغنائم في الغزوات ( أي خصوصياتنا التراثية عبر آلاف السنين) قد تغلغلت أيضاً في الأدمغة وأوجدت فيها ما يشبه جهاز المناعة الرافض لأي دخيل من خارج منظومته، تماماً كما يتصرف جهاز المناعة البيولوجي في جسم الإنسان ضد غزو الميكروبات ومسببات الأمراض الأخرى.
هذه العقلية (التنافس على المكانة واللقب والغنائم)، ما زالت تشكل أرضية عصية على استنبات عقول تتعامل باحترافية علمية حقيقية مع احتياجات البيئة الصحراوية وتساهم في إيجاد حلول مستقبلية لها.
أظن أن مضمون خطبة الجمعة التي سمعتها قبل ثلاثين سنة ما زال يتكرر في كل جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية.
الرياض