في اللغة للقمع معانٍ كثيرة متنوعة ومتفرقة، يعنيني منها قمع التي معناها: مَنَعَهُ فلانا عمَّا يريد، وقَهَرَهُ وذَلَّلَه. وتعني في المجال السياسي استعمال القوة لمنع الانشقاق والتمرد سواء أكان مسلحاً أم فكرياً. ولعل أشده القمع الفكري، فهو آلة قسر وقصر وتهميش وتصفية، كثير ما يرتدي أقنعة الطائفية والعرقية والمناطقية..
إلا أن أشده قمع الفكر أياً كان قناعه. الفكر غايته البحث عن الحقيقة التي قد تكون مرّة عند من لا يريد الآخرين الوصول إليها والعثور عليها بالتالي فإن القمع طريقته في سد طريق الوصول عليه. يمكن للقمع أن يتولى تصفية الباحث عن الحق، قال تعالى {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت/24).
أيضا قال تعالى{ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(البروج/4-9).
القمع في علم النفس أشبه بقنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة ومكان. في حين هناك أشخاص قمعهم لا يجعلهم يدسون رؤوسهم عند تعرضهم للقمع بل يبالغون في ردة أفعالهم ويتمردون ويتصرفون باستهتار رغبة في تدمير الآخر من ذلك ردود أفعال المرأة عندما تواجه قمعاً ذكورياً. ومن القمع الفردي إلى القمع الجماعي الذي منه قمع الحكومات والحكام للشعب. حيث إن النزعة القمعية تتولد لا إرادياً ودون وعي كامل عند من ديدنه السلطة والمكانة أو الشهرة فيقمع الذي من الممكن أن يقف ضده أو في وجهه أو في وجه تولي هذه المكانة. القمع يبدأ من المنزل عندنا تقمع أسئلة الطفل ويصادر عقله، لينتقل معه القمع في المدرسة وفي الشارع ومن الحكومات! فهل سننتظر مستقبلاً نيراً لمجتمع الأفراد فيه تأسسوا على القمع؟! المعجزات السماوية لم تكن معجزات حسية وإنما عقلية تحاكي العقل وتتحداه وبالتالي تثير الأسئلة وتستفز عقول لو أنها قمعت ما آمنت إيماناً خالصاً لا إيمان من وجدوا آباءهم مؤمنين!
إبراهيم عليه السلام عندما سأل ربه قائلاً: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}، لم يقل له الله سبحانه وتعالى: توقف عن الأسئلة، آمن وكفى! بل قال له وأجابه الإجابة الربانية: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. كان السؤال أداة قرآنية في مفهوم القراءة الشاملة والدقيقة للكون والخليقة والبشرية فكانت حضارات العرب وكان مجدهم وعندما قمع السؤال بدئاً من المنزل حتى السلطة حُجر العقل وانحسرت حضارات العرب والمسلمين إلى مصاف المتخلفين أو القابعين في مؤخرة الحضارة.
أكدت الدراسات والأبحاث أن الطفل يسأل في مرحلة ما قبل الدراسة بمعدل 100 سؤال في اليوم، لكنه في مرحلتي الابتدائية والمتوسطة يكف عن السؤال، وهذه هي نفس المرحلة التي يضعف فيها الحماس للسؤال والبحث والاستفسار، بل للحياة بشكل عام.
ما الذي يحدث في المدرسة؟ النظام المدرسي يقمع السؤال ويقتل روح التساؤل، لأننا في المدارس نكافئ على إجابة الأسئلة، لا على القدرة على طرح سؤال جيد، بل قد نعاقب أحيانا على كثرة السؤال، وهذا يؤدي إلى أزمة في الإبداع، بالرغم من أن القدرة على طرح الأسئلة الذكية المبدعة معيار أهم وأصدق للذكاء والفطنة من القدرة على حفظ الأجوبة الصحيحة الجاهزة.
بل يُعتقد أن الطفل الذي يفقد الشغف وحب الاستكشاف والسؤال، يفقد مع ذلك مستقبله، حيث إن إمكانياتنا العاطفية والاجتماعية والعقلية والمعرفية تتشكل وتتبلور من خلال نوعية وكمية التجارب والخبرات التي نمر بها في حياتنا، والأطفال الذين يفقدون حبهم للاستطلاع والاستكشاف والسؤال، من الصعب أن يصبحوا ملهمين أو متحمسين لأي شيء، مما يؤدي إلى أن يصبحوا أقل قراءة وأكثر صعوبة للتعلم وأقل قدرة على بناء صداقات وعلاقات مع الآخرين. ذلك لأن العزلة سبب من أسباب القمع.
bela.tardd@gmail.com -- -- p.o.Box: 10919 - dammam31443Twitter: @HudALMoajil