قَدَرُ جيلنا المأزوم، أنه جاء في زمن العُرْي الذي لاتخفى فيه خافية. وما أنا إلاَّ واحد من هذا الجيل موكَّلٌ بفضاءات الفكر المكفهرَّة ومفازات السياسة المُضِرة، أذرعها جَيْئة وذهابا. وهي فضاءات ومفازات عربية وإسلامية،
تفيض بالأزمات الزَّقُوميَّة، ولمَّا تزل تزداد قتامة، وإيغالاً في التفاقم، وسوء الأداء. وكلٌ يَدَّعِي براءته مما يحدث، حتى لقد ضاع دم الفضيلة بين فئات المتنفذين، الذين تراهم رأي العين، وهم يخوضون خبال الفكر ومكر السياسة. ويُصَعِّدون الأزمات فيهما، ثم لا يترددون في التخلي عن المسؤولية، وكأن البراءة المُلْتَحفة (ليلى) المؤَسْطرة، التي يَدَّعِي وَصْلَها كل عاشق، فيما لا تُقِرُّ لهم بذاكا.
وكل مأزوم يجد الزاد والراحلة، للتنقيب في مُعْضِل الفكر، ومُشْكل السياسة، والرحيل إلى آفاقهما المتفاقمة، وهو متكئ على أريكته في عُقر بيته. فأمامه (شاشة) يستعرض من خلالها كل القنوات المسيَّسة و(المؤدلجة)، والمأجورة. وفي حِجْره (لوحٌ سحري)، يستحضر له ما شاء من المعلومات والمشاهد. وهي في النهاية وجبات سريعة تَضْوى بِها الأجْساد.
وإذا كنا نَسْتَغْرب ما أوتي (سليمان) عليه السلام من ملك لا ينبغي لأحد من بعده. فإن من لم يعش ما نحن فيه من تقنية دقيقة، تشبه جِسْم المتنبي الذي يصفه بقوله:- (لولا محادثتي إياك لم ترني) يَعيشُ الاستغراب نفسه، والدهشة ذاتها. ولقد تكون أمتنا فيما هي عليه، تعيش في قَعْر (السَّنَواتِ الخَدَّاعات).
ففي مجال السياسة، لاتَسَلْ عنا، ولا كيف شقانا، وما راءٍ كمن سمعا.
وفي مجال الفكر يُمِضّك ما ترى، ويَسُوؤك ما تسمع من تجاوزات لا مبرر لها، ومن تقحمات جريئة من أنصاف المتعلِّمين. والزبَّدُ الرابي في مشاهد الفكر إن هو إلا اجترارٌ لهشيم التُّراث، وتَسْخينٌ مُمِلٌّ لطبيخ مُغِبٍّ، كما قال (مارون عبود) عَمَّا يجتره (طه حسين) من آراء شاذة للمستشرقين.
فالفلتات المثيرة للرأي العام استدعاء غَبِي لمقولات سلفت، وعَفَتْ معالمها. أتى بها الفارغون الخاملون، ليملؤوا بها أوعيتهم الخاوية، ويطردوا بها غربتهم الخاملة.
والرأي العام من حولهم مُحْتقن متوتر، ذاهل عما يألف ويحب، واضع ثقله في سبيل الخلوص من مآزقه، وقد زويت له الأرض، ليرى أدق ما فِيْها. وأنَّى له الخلوص، ووسائل الاتصال، وثورة المعلومات ترصُد الأحداث لحظة بلحظة. ومثل هذه التَّملمُلات البركانية مُرْبِكة للمسيرة السَّوِيَّة، ومعطلة للحركة الجادة، وحائلة دون مواصلة الأداء السليم. وأيُّ إخلال في الأمن الفكري مَدْعَاة لضياع الجهد والمال والوقت، وإرباك لخطط التنمية وخرائط الطريق.
واضطرابُ الجبهاتِ الداخلية، يشل الحركات القاصدة، ويستنزف الطاقات الموجهة، ويعيق الحركة الهادفة. وما أضاع الشعوب العربية إلا عُنْفُ الوُصولية، والأصولية، والحزبية، والطائفية، والعُنْف المضاد، الناشِئُ من فوضى التفكير، وسفه التعبير، وخطل السياسة. وما من خلل في الأمن إلا هو ناتج اضطرابات فكرية، جناها البراقشيون على أهلهم.
ولنضرب مَثَلاً آخر بالمتذيلين لشذاذ المفكرين، الذين يَنْدِلُون شواذ فكرهم نَدْل الثعالب، مُدَّعِين أن الأخذ بها سبيل النجاة.
ومثلٌ ثالث نضربهُ، متمثلاً بطلعات المتفيهقين الذين يودون أن يكون لأحدهم في بؤر الضوء ولو مفحص قطاة.
ودَعْك من سَفهِ المسْتغربين، ونزق المتعلمنين، وتهافت المتَعَوْلمين. فكُل هؤلاء وأولئك يخادعون الرأي العام بما يبدونه من آراء مُسْتلَّة من كتب الاختلاف، ورؤى مُسْتلبةٍ من أنهر الصحف، وما يشيعه المتفيهقون من فتاوى شاذة، وما يختارونه من مسائل غريبة، وما يؤيِّدونه من مواقف تخالف رأي الجماعة، سَطْوٌ في رابعة النهار، وقضايا مضطربة، استلوها من مثواها الأخير في كتب التراث، وأعادوا تشكيلها، وتلوينها بلغة العصر. حتى ظن المبتدئون أنها من عند أنفسهم، وما هي إلا اختلاسات متذاكية. ولو أقيم على هذا الصنف حد السرقة لقُطِّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولنفوا من مشاهد الفكر والعلم، لأنهم لصوص محترفون، ينقلون المثير من خلافات أساطين العلماء المحصورة فيما بينهم إلى العامة، فيكونون كمن يُحدِّث الناس بما لا يعقلون. والخليفة الراشد “علي بن أبي طالب” قال لمن يخوض في المتشابه: (حَدِّثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يُكفر بالله ورسوله) أو كما قال - رضي الله عنه -. وكل هذا من دوافع (الشهوة الخفية) كما يسميها (شيخ الإسلام)، وهي حب الظهور، وتكثير المريدين.
وكيف يُسَوِّغ الخلِيُّون لأنْفُسِهم مفارقَةَ الجماعة، ويَدُ الله معها. والأسوأ من هذا أن يبلغ التشبع بالبعض من أولئك حد الادعاء بأنه من أصحاب (المفردات) أو (المختارات). وقد يبلغ به الهوسُ حد التجنِّي، فَيُؤَلِّف كتاباً عما انفرد به من المسائل. ولو نودي بها لِتَعود إلى أصحابها، لما بقي في كتابه مسألة واحدة.
وإذا كنا نتابع ظاهرة (السرقات الشعرية)، ونستاء من ذلك، مع أن مثل هذه السرقات لا تتجاوز البيت أو الشطر أو المعنى الخفي، فإن سرقات المشاهد العلمية والفكرية بالجملة.
وكم من خطباء شدوا الانتباه، وأثاروا الدَّهْشة، وليس لهم مما يقولون إلا جهورية الصوت، وحسن العرض، ودقة المخادعة. وما أكثر المسَيِّسين للمنابر و(المؤدلجين) لها الذين يلملمون آراءهم ومواقفهم من زبالة الإعلام. وكم من مؤلفين يأخذون من هنا، ويضعون هنا، ثم لا يتردد أحدهم في القول:- مُؤلِّفه أنا.
وما نحن ببعيدين عن ظاهرة النِّخاسَة المعرفية، والمتجارة بالشهادات الوهمية، وبيعها في وضح النهار. وهذا مدعاة للاشمئزاز، والحكم على مجتمعات المتنخوبين بالفساد. وحين يدب الغش إلى مثل هذه المحافل الفكرية والعلمية، فقل على الأمة السلام.
- وهل بعد فساد هذه الشريحة من فساد؟
وكيف يُلام مَنْ دونهم باللَّمم!. وهم يقترفون الكبائر. لقد مُلئت مشاهدنا بمتعالمين يفاجئون الناس بآراء، وأحكام، وأقوال تبلبل الأفكار، وتوغر الصدور. فرغ منها العلماء، وتجاوزها الزمن، وثبت لكل ذي عينين ولسان وشفتين أنها لم تعد مجدية لمنشئيها، فضلاً عن مستلبيها. لقد سطوا عليها، ونقبوا عنها في بطون كتب التراث، ليبنوا لأنفسهم أمجاداً زائفة.
ومما يزيد الحالة سوءاً أن يتصدى لهم من لا يُحْسِنُ إدارة الأزمات. والاهتياجُ الأعزل، والحماسُ غير المحكوم بلغة التفاوض، يُضيف إلى المشاهد أعباءً إلى أعبائها، ويُحمِّل الأمة مشكلات مضاعفة. وكل هذا يغري المتربصين بنا الدوائر باستغلال الثغرات، وتهييج بعضنا على بعض، ونزع الثقة ممن يُتَوقَّع منهم معالجة الجنح بالدراية والرواية والدفع بالتي هي أحسن.
هذه الغنائم الباردة التي ظفر بها الفارغون، أغرت المترددين، وحملتهم على ممارسة الخطيئة، للظَّفَرِ بِقِسْطٍ من الأضواء الزائفة عبر الكتب، والصحف، والقنوات، والمواقع.
وأخطر شيءٍ على مشاهد العلم والفكر، فَقْد العلوم المؤَصَّلَة والمواقف الشريفة. ومن ذا الذي ينكر الضحالة المعرفية، والتَّلَوُّن الحرباوي. ومتى تذبذب المتنازعون بين الولاءات والمرجعيات، انفلت العقد، وعَمَّت الفوضى، وشاع الوهن، ولاذ الورعون بالصمت، وخلت الساحة للرجال الجُوْف. ولما كانت المرجعية قِسْمة بين (النص) و(الذات)، فإن طائفة من المتنفذين من المنتسبين لأهل السنة والجماعة، المغرمين بالقنوات والتغريدات، لا يحسنون الرجوع إلى النص القطعي، ولا يُقَدِّرون العلماء الأفذاذ قدرهم. ومن ثم ضعفت سلطة النص، وذهبت هيبة العلماء. فيما نجد مَنْ هم دون أهل السنة والجماعة مَنْ يُقَدِّسون (ولاية الفقيه) و(بيعة المرشد).
أفلا يَكون أولئك ببعض ما ذكر جيلاً خائباً، يستحث ما حَذَّر منه (النذير العُرْيان).
فَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، - رضي الله عنه - أنه قال: قال: رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(سيأتي على الناس سَنَواتٌ خَدَّاعات، يُصَدَّقُ فيها الكاذب، ويُكذَّبُ فيها الصَّادقُ، ويُؤتَمنُ فيها الخائِنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، ويَنْطق فيها الرُّوَيْبضَةُ، قيل: وما الرُّوَيْبِضَةُ؟ قال: “الرَّجلُ التَّافه -وفي رواية - السَّفيهُ يتكلم في أمر العامة). (حديث حسن رواه الترمذي).
فهل نعيد لمؤسساتنا الدينية هيبتها، وفاعليتها، ولِنَصِّنَا القطعي الدلالة والثبوت سلطانه، ولعلمائنا مكانتهم التي تليق بهم، ونحسم الفوضى غير الخلاَّقة بمرجعية مطاعةٍ، ونَصٍّ مُحَكَّمٍ، وحُكْمٍ عَدْل. ومن ثم نُؤَجِّل الوَعْد التحذيِري من (السنوات الخدَّاعات).