مع اقتراب يوم (الثلاثين من يونيه)، كانت (مصر) تقف على أطراف أصابعها.. قلقاً وتوتراًَ، وكانت (القاهرة) أكثر قلقاً وتوتراً.. مخافة أن يحدث ما لا تحمد عقباه بين جموع حركة (تمرد) وأنصارها الذين وقعوا استماراتها ولم يكن معروفاً آنذاك كم هي أعدادهم على وجه التحديد، وقد حددوا (ميدان التحرير) مكاناً لتظاهرهم في ذلك (الأحد)..
تذكيراً بأنهم الامتداد لـ (ثورة الخامس والعشرين من يناير)، التي خرجت من ذات الميدان واختطفها (الإخوان).. وبين (الجماعة) وأنصارهم من المؤلفة قلوبهم وأحلامهم وجيوبهم، وقد أخذوا يحشدون لذلك اليوم.. وهم يتمركزون في تقاطع شارعي (الطيران) و(يوسف عباس) الذي يقف مسجد رابعة العدوية في أحد زواياه، والذي سمي فيما بعد بـ (ميدان) رابعة العدوية، لتفاجئ (الجماعة) المصريين جميعاً.. باعتزامها التظاهر في ميدان التحرير نفسه دعماً لـ (الشرعية) قبل يومين من الموعد الذي ضربته (حركة تمرد) لمظاهرتها، رداً على دعوة القائد العام للجيش المصري (الفريق عبدالفتاح السيسي) إلى الرئاسة المصرية بالعمل على حل الاختلافات مع المعارضة بما يجنب (مصر) الاضطرابات والقلاقل التي تهدد سلامها الداخلي وأمنها الخارجي.. خلال أسبوع، لأن (الجيش) لا يستطيع أن يصم أذناه ويغمض عيناه عما يجري في الوطن، لكن سرعان ما تراجعت دعوة التظاهر (الإخوانية) في ميدان التحرير، ليحل محلها إعلان التليفزيون الرسمي.. عن خطاب سيلقيه الرئيس مرسي في السادس والعشرين من يونيه.. أي قبل أربعة أيام من دعوة (تمرد) لسحب الثقة منه والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة.. بمناسبة مرور عام على توليه الرئاسة، ليقدم خلاله كشف حساب عن عامه الأول..!!
فكان أن توقع الكثيرون.. أن يكون الخطاب تصالحياً مع المعارضة وأبناء مصر عامة من غير أعضاء (الجماعة).. ليعيد من خلاله بناء الثقة معهم، وهو يقدم فيه بعض التنازلات الموضوعية التي كانت تلح في طلبها أطياف المعارضة.. كإقالة وزارة الدكتور هشام قنديل الإخوانية المتعثرة، وإبدالها بحكومة تضم الكفاءات الوطنية المصرية جميعها.. بصرف النظر عن انتماءاتها السياسية، أو الإعلان عن تشكيل (تأسيسية وطنية) جديدة محايدة لمراجعة المواد الأربعة عشر المعيبة في (الدستور) والتي اعترف الرئيس بها شخصياً، أو أن يعلن عن عزمه في تغيير (النائب العام).. بدلاً من النائب العام الإخواني الذي فرضه على النيابة العامة المصرية (طلعت عبدالله)، لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك.. وكان خطابه الذي يذكر بخطب الرئيس الكوبي فيدل كاسترو الطويلة، التي يتثاءب فيها نصف شهودها: (كارثياً).. بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فلم يترك أحداً من معارضيه وخصومه أو معارضي الجماعة وخصومها إلا وعرّض بهم وبأسمائهم الصريحة دون (ترفع) يمليه عليه وقار المنصب، أو حياء من الله والناس.. يمنعه من النيل من أي مواطن حتى ولو كان (بائع فجل) في التوفيقية أو الدرّاسة. إذ لم يترك أحداً ولا جهة إلا وتعرض لها بالتحقير والازدراء والطعن في نزاهتها.. من القضاء والنيابة إلى الشرطة والجيش إلى أصحاب القنوات الفضائية إلى الصحفيين أنفسهم، الذين لم يرحموه من قبل.. حتى يرحموه من بعد هذا الخطاب (النكبة) عليه وعلى الجماعة، والذي اختتمه بعد ساعتين ونصف الساعة (!!).. بطلب من المحافظين الإخوانيين (الجدد) الذين عينهم قبل أسابيع قليلة من خطابه، ورفضتهم معظم محافظات مصر.. بـ (فصل العاملين) الذين يتبعون (الفلول) وتعيين غيرهم في ظرف أسبوع واحد!! وسط تصفيق وتهليل.. المطبلين والمزمرين والمنتفعين من أعضاء (الجماعة) الذين احتشد بهم الثلث الأخير من (قاعة المؤتمرات) المغلقة بمدينة نصر.. والذين كانوا على وجه اليقين موضع اشمئزاز كل العاقلين والراشدين من متابعي ذلك الخطاب!! الذي كان بحق أول (وصلة ردح).. يقدمها رئيس منتخب (!!) لشعبه.
لقد تابعت الخطاب رغم طوله وملله.. حتى نهايته بمشاعر من الحزن العميق لانحدار مستوى الرئاسة في مصر العظيمة - على يد مرسي - إلى هذا الحضيض السياسي والأخلاقي، تقابلها مشاعر من السعادة والفرح.. لضياع أفضل الفرص على ممثل (الجماعة) أو مندوبها إلى قصر الاتحادية - الدكتور مرسي - في (تحسين) صورته وصورة الجماعة التي أفسدتها الأحد عشر شهراً الماضية، لأن مصر العظيمة بـ (وسطيتها) ومنظومة مكوناتها الحضارية والثقافية والعلمية والأدبية.. أكبر من أن يترأسها (مرشد) للجماعة فضلاً عن (درويش) من دراويشها!! ولذلك فقد كان (خطابه) هذا.. أجمل هدية.. وأعظم (كفن) تلف به (الجماعة) إلى مثواها!!
***
عندما جاء يوم (الثلاثين من يونيه) وطفح ميدان التحرير وكل الميادين والشوارع المؤدية له بـ (الثلاثة والثلاثين) مليوناً مصرياً.. استجابة لدعوة (تمرد) بسحب الثقة من (الرئيس) والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، والتي صب الزيت على نارها خطاب الدكتور مرسي الأخير دون شك.. مشكلاً ذلك المشهد الفيضاني المروِّع، والذي لم تعرفه القاهرة طوال حياتها حتى في وداع فنانة الشعب (أم كلثوم) يوم رحيلها، أو في جنازة العندليب الأسمر.. (حبيب الملايين) عبدالحليم حافظ، وكل ملايين ذلك (المشهد) تنادي بأصواتها ولافتاتها تحت الأعلام المصرية بـ (عزل) الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، إنما كان ذلك يعني (السقوط) للرئيس في (امتحان) الثلاثين من يونيه!! وأن عليه أن يرحل عن قصر الاتحادية.. إذ أن الترجمة الحرفية لقدوم ذلك الحضور المروِّع، والتكدس البشري المخيف.. هي أنه قَدِمَ لـ (ختم) وثيقة (عزل الرئيس)، ولم يكتف بالتوقيع على استمارات (تمرد) من بُعد، ولكن الرئيس و(الجماعة) من خلفه لم يريدا أن يفهما الأمور على حقيقتها، ليظل الرئيس يؤكد بـ (أن لا بديل عن الشرعية)، وهو يدعو تلك الحشود إلى التفرق حتى يفوتوا (الفرصة) على (فلول) النظام السابق والثورة المضادة.. متناسياً إنذار (أسبوع المصالحة) الذي تجاهله، فـ (إنذار) الثمانية والأربعين ساعة الذي تناساه عمداً، إلا أنه عاد فأعلن في صباح اليوم التالي - الأول من يوليه - عن قبوله بـ (العزل).. لكن مع إعطائه مهلة ليومين للتشاور - وربما.. للتآمر!! - لكن القيادة (المصرية) التي شكلها الجيش في ذلك اليوم من قانونيين ودستوريين وشيخ الأزهر وبابا الكنيسة وممثل عن جبهة الإنقاذ، وآخر عن حزب النور السلفي وثلاثة من شباب (تمرد) عن الشارع المصري.. كانت أوعى من أن تقع في (مطب) المهلة هذا عندما رفضته بـ (الإجماع).. وخيراً فعلت، لتواصل هذه القيادة اجتماعاتها.. وليتم الإعلان عن (خارطة المستقبل) على لسان الفريق عبدالفتاح السيسي مساء يوم الأربعاء - الثالث من شهر يوليه - بحضور ودعم تلك القيادة وتصديقها.. حيث تم الإعلان عن تفاصيل (الخارطة) بـ (تعطيل دستور الإخوان)، وتنحية الرئيس مرسي، وتعيين رئيس المحكمة الدستورية (عدلي منصور) رئيساً مؤقتاً لحين تعديل الدستور وإجراء انتخابات رئاسية، وتشكيل لجنة تضم كافة الأطياف لإجراء التعديلات الدستورية المقترحة، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية لإدارة البلاد.. ليقص الشارع المصري ويغني المغنون (تسلم الأيادي)، وتتداعى برقيات التهاني العربية على القيادة المصرية والتي كانت في مقدمتها تهنئة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والتي تبعها دعم سياسي واقتصادي غير مسبوق.. تأييداً لـ (خيار) ملايين المصريين، ونبذاً لـ (انعزالية) الجماعة، وتصوراتها بأنها حامية حمى الإسلام في مصر: بلد المتدينين والمتيمين بحب (آل البيت) رضوان الله عليهم، والذي عرف الإسلام منذ أن جاءه (عمرو بن العاص).. ليدخل الناس في دين الله أفواجاً، فلم يهدم معبداً أو يزيل تمثالاً أو يحجب آخر عن عيون الناس خشية (الفتنة)..!! وليس مع مجيء (حسن البنا) وتأسيسه لـ (الجماعة) عام 1928م.
لقد تسارع فيما بعد.. تأييد الخليجيين السياسي والاقتصادي من الإمارات إلى الكويت، والسياسي من كل من البحرين والأردن والمغرب.. وبقيت الولايات المتحدة على ترددها في تأييد ما حدث باعتباره ثورة شعب أيدها الجيش، وظلت على عنادها غير البريء بأن ما حدث هو (انقلاب عسكري)، أو في أحسن الأحوال (انقلاب عسكري بثياب مدنية).. نظراً للعلاقات الأمريكية الدفينة مع (الجماعة)، والتي دشنها - من جانب الجماعة - منذ عام 2005م عضوا مجلس الإرشاد البارزين: خيرت الشاطر وعصام العريان، وكانت محاورها الرئيسية ثلاثة: (بقاء خريطة الشرق الأوسط على ما هي عليه، واستمرار اتفاقية كامب ديفيد، والسلام الحقيقي مع إسرائيل)!! ومع ذلك كان محمد البلتاجي يجأر مضللاً جماهير (رابعة العدوية) بالنشيد الذي كتبه: (شهداء بالملايين ع القدس رايحين)! والتي انكشف لـ (الإعلام الورقي) جزء منها.. بزيارة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون إلى (مرشد) الجماعة محمد بديع في مكتبه بالمقطم، وأكملها الدفاع المستميت من قبل السفيرة الأمريكية بالقاهرة (آن باترسون) عن الرئيس مرسي وشرعية عودته إلى (الرئاسة)، وقد سار معها (الاتحاد الأوروبي) إلى منتصف الطريق، ثم انفض عنها.. بينما كان رسام الكاريكاتير المصري في صحيفتي (روزاليوسف) و(الوطن) الأستاذ عمرو سليم.. أسرع في قراءته لما سيحدث بعد يومين من (كارثة) خطاب الرئيس.. بـ (استحالة) عودته، وهو يقدم صورة (كاريكاتورية) للرئيس.. خارجاً من منزله وفي يديه حقائب سفره وقد ساعدته (الشغالة) بفتح الباب له.. ليقول لها: (مفيش داعي تقولوا إني هربت من البلد عشان خايف من الجيش.. قـ.. قولوا سافر ألمانيا يدوَّر على شاحن)..!!
***
ولكن الأخطر فيما ارتكبته (الجماعة) إبان رئاسة (مرسي) الكئيبة والخطرة التي لا تستحقها (مصر).. إنما جاءت بعد ساعات من سقوطه وسقوط (الجماعة) في الثلاثين من يونيه، الذي يبدو أنه أفقد الجميع رشدهم وصوابهم، وجعلهم يتصرفون بحالة (هستيرية) لا تصدق.. لا يهمهم فيها (وطن) ولا (مواطنين)، ففي صباح الثاني من يوليه.. كان الرئيس - مايزال حتى ذلك الوقت في قصر الاتحادية - يطلب من وزير خارجيته السيد محمد كامل عمرو (الاتصال بالدول الأجنبية لطلب تدخلهم ضد الجيش.. لأنه قام بانقلاب على الشرعية)!! تماماً كما فعل الخديوي (توفيق) عام 1882م عندما استدعى (بريطانيا) لصد ثورة الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي.. فما كان منه وهو الدبلوماسي الحصيف إلا أن يبلغ (الفريق السيسي)، ويقدم استقالته، وينصرف إلى بيته، ليقوم بـ (المهمة) مستشار الرئيس الإعلامي (عصام الحداد)..؟!
فكان ذلك الفعل من الرئيس.. هو أحد أحط وأقذر أفعاله..!!
ومع زحف متظاهري التحرير في مساء ذلك اليوم إلى (المقطم) - وقبل الإعلان عن خارطة المستقبل - وهم يرفعون لافتات: (ارحل) و(يسقط حكم الإخوان).. إلا أنهم فوجئوا بوجود عناصر من (الجماعة) فوق سطح المبنى وهي تحمل بنادق (الخرطوش) دفاعاً عن المبنى، ليتم إطلاق الرصاص عشوائياً على المتظاهرين.. فيسقط أربعة وعشرون قتيلاً.. ثم يتبعهم أربعة آخرون.. إلى أن بلغت حصيلة تلك الليلة الدامية سبعين قتيلاً..؟!
ولم تكتف (الجماعة) أو عناصرها بذلك.. لترتكب أبشع وأشنع جرائمها - في الخامس من يوليه - عندما قام أحد أعضائها (محمود حسن رمضان) باعتلاء أحد أسطح العمائر في منطقة (سيدي جابر) بالإسكندرية.. للإمساك بشاب صغير دون الثامنة عشرة احتمى بسطحها وقتله، وإلقاء جثمانه من فوق سطح العمارة، ليقوم أحد أعضاء الجماعة بضرب رأسه بـ (البلطة).. في مشهد يتجاوز خيال العقلاء والمجانين بحد سواء..!!
أما عندما اقتربت ساعة فض اعتصامي (رابعة) و(نهضة مصر) في الرابع عشر من شهر أغسطس الماضي، وتأكد لـ (الجماعة) أن لا عودة إلى قصر الاتحادية، وأن مستقبل (الجماعة) بين البقاء والزوال.. بات مرهوناً بـ (لجنة الخمسين) التي ستتولى مراجعة الدستور على مدى ستين يوماً.. فقد بلغ عته (الجماعة) مداه، وكانت فاتحة ذلك العته مذبحة جنود الأمن المركزي الأربعة والعشرين في سيناء وهم في طريق عودتهم من رفح إلى العريش في الثاني عشر من أغسطس الماضي.. انتقاماً من حكومة (خارطة المستقبل)، التي قطعت عليهم طريق استبدادهم بـ (الوطن)، ومصادرتهم لـ (الإسلام) - دين الأكثرية من أبنائه - وكأنهم أصحاب وحيه وجنود رسالته الأول!!
ليكتمل عته الجماعة.. في تلك الليلة الحزينة من ليالي القاهرة.. عندما أضرموا النار في مساجدها وكنائسها ومراكز أمنها ومحلاتها ومبانيها.. لتبيت مصر على دموعها وأنينها.. ويبيت معها عالمها العربي والعالم بأسره على ذات الوسادة: وسادة الأنين والأحزان.. وهو يتساءل: أي حكم هذا.. الذي يريد أن يبقى وهو يقتل أبناءه ويحرق عاصمته..؟!
لقد قضت (الجماعة) على نفسها بنفسها.. وكان الرسام المصري (عمرو سليم) بليغاً في تصوير نهايتها.. عندما جمع في رسم (كاريكاتوري) بين المرشد المؤسس (حسن البنا)، والمرشد الأخير (محمد بديع).. وهما في طريقهما لمشاهدة فيلم (بداية ونهاية)!! المأخوذ عن قصة الأستاذ نجيب محفوظ والأول يقول للثاني: (على أيامي كان بعض الممثلين بيبوسو وبعضهم بينضرب)، ليرد عليه (بديع): (على أيامي كلهم بينضربوا)..!!
abnthani@hotmail.comجدة