ضج الناس هنا، واستخدموا التقنيات في إثارة موضوع الرواتب وعدم كفايتها في ضوء ارتفاع تكاليف المعيشة، وازدياد حاجيات الناس واتساع أوجه الصرف في حياتهم المدنية على وجه الخصوص. وبالطبع لكل رأي وجاهته، والحجج التي يقدّمها أصحابه من أجل الدفاع عن صحة وجهات نظرهم إزاء من يقول بعدم وجاهة الزيادة، لئلا يزداد سعار الأسعار بواسطة التجار الجشعين، الذين يرفعونها حتى دون سبب؛ فكيف إذا ظنوا بأن الناس سيقبلون على سلعهم بسبب زيادة قوتهم الشرائية.
لكن الغريب في الأمر أن تقارير إعلامية ظهرت مؤخراً تؤكّد أن البريطانيين باتوا يرددون المقولة نفسها، وإن لم يصنعوا لها هاشتاقات، أو مواقع على شبكات التواصل. والمدهش في ذلك أن تلك التقارير أشارت إلى كون ما يقرب من 26 مليون بريطاني يرى بأن دخله لا يكفيه، ليعيش عيشة كريمة. وهذا العدد ربما يصل إلى نصف عدد البالغين (من ذوي الدخل الذين يعولون أفراد أسرهم) في بريطانيا. فهل يُعقل أن يكون نصف الشعب البريطاني، الذي يعيش في واحدة من أغنى خمس دول صناعية في العالم، يعاني من ضعف القدرة الشرائية في الضروريات؛ بل ويشتكي أولئك العاجزون من ديون تثقل كواهلهم بواسطة بطاقاتهم الائتمانية، التي أصبحوا يعملون بسببها في أكثر من عمل من أجل تسديد ما عليها من متطلبات.
وقد كنت في زياراتي إلى بريطانيا أو غيرها من الدول الصناعية أتساءل: كيف يستطيع الناس في تلك البلاد أن يعيشوا في ظل ذلك الغلاء الفاحش في كل شيء؟ فكنت أسأل عن معدل الدخل الأسبوعي للموظفين البسطاء، أو محدودي الدخل كما نسميهم. وعندما عرفت بأنهم لا يحصلون في الغالب على أكثر من مائتي جنيه إسترليني في المتوسط أسبوعياً، قلت: إذاً كيف يستطيعون العيش في المدن الكبيرة على وجه الخصوص؟
وما كنت ألاحظه أنهم يلبسون بشكل جيد، ويأكلون في أماكن مرتفعة الأسعار نسبياً، ويستخدمون وسائل النقل، وهي مرتفعة الأجور أيضاً، بالإضافة إلى إيجار المساكن وغيرها من متطلبات الحياة. فكيف يحققون هذه المعادلة الصعبة؟ لكن يبدو أنهم كغيرهم من بعض الشعوب الأوربية قد أخذوا بالمبدأ الأمريكي، الذي يقضي بالاستهلاك، وعدم التفكير في الغد. وما دامت لديك وسيلة للشراء، والعيش كما تريد، ولو لأيام معدودة، فلتستفد منها، وللأيام القادمة نصيبها. ونظراً لانتشار هذا المبدأ في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أفلس كثير من الناس، أو دخلوا السجون، وبيعت بيوتهم بعد أن اشتروها بقروض ميسرة من البنوك، لكنهم لم يستطيعوا الوفاء بمتطلبات تلك القروض. فهل خسر الأوربيون عقلانيتهم، التي عرفوا بها منذ عصر التنوير، وأصبحوا يلهثون خلف النموذج الأمريكي، الذي لا يحسب إلا متطلبات اللحظة الراهنة؟
عودة إلى النموذج المحلي، والشكوى من عدم كفاية الدخل لمتطلبات الحياة؛ لست بصدد اتخاذ موقف من تلك المواقف، ولا التعليق على كل حالة. لكن كثيراً من متوسطي الدخل ومحدوديه لدينا لا يمدون لحافهم على قدر أرجلهم؛ فيصرفون كما تمليه عليهم رغباتهم، أو متطلبات بعض أفراد أسرهم، أو محاكاة ذوي الدخل المرتفع. وعندما يفاجأون بعدم قدرتهم على الوفاء بتلك المتطلبات يلجأون إلى الاستدانة، ثم يبدأ مسلسل الديون من أجل تسديد ديون قبلها، وما يصحبها من هموم وحالات نفسية تؤدي ببعضهم إلى السجون، أو المخدرات للتخفيف من الأعباء النفسية. تلك هي جذور المشكلة: سوء في التخطيط، ثم اعتباط في الحلول، وأخيراً سوء تحليل للواقع ونتائجه. والأغرب في تلك القضية، أن قليلاً من المحللين أو مرتادي المجالس يفرقون بين حالات العبط والأوضاع المحتاجة إلى إصلاح!
الرياض