يحكى أنّ قاضيًا أصدر حكمًا على رجل بالإعدام.. وأثناء الحكم اكتشف المنفذون أن حبل المشنقة قصيرٌ ولا يناسب رقبةَ الرجلِ.. فلم يتردَّد القاضي في إصدارِ حكمٍ بديلٍ ولحظيٍّ يتَضمَّن طلب إعدام أحد الحضور ممَّن تناسب رقبته الحبل القصير بدلاً عن المحكوم!!.. هذه الحكاية المضحكة وأخريات كثيرات صاغت الوعي الاجتماعي التاريخي بشخصيَّة مهمة هي «قراقوش»!
«حكم قراقوش» أصبح مثلاً دارجًا يصوّر الظُّلمَ الفاضحَ والأحكامَ غير الموضوعية.. لكن قلّة ممَّن يتداولون هذه العبارة يعرفون خلفيتها ومن يكون قراقوش الظالم؟!
خلاصة القول في قراقوش ما ذكره ابن كثير في كتابه البداية والنهاية من أن أبا سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي الملقب ببهاء الدين لم يكنْ إلا إداريًّا ناجحًا وفقيهًا واعيًا، حسن َالمقاصد، جميلَ النيّة، ويشير باحثون كثرٌ إلى أنّ الرَّجلَ تعرض لحملة تشويه بسبب منافسات البلاط لقربه من صلاح الدين الأيوبي ولدوره السياسي في إسقاط دولة الفاطميين، وكانت ذروة التشويه في كتاب الأسعد بن مماتي «الفاشوش في أحكام قراقوش»، على الرغم من أنّ أحدًا لم يعدْ يعلم بوجود الكتاب فضلاً عن الاستشهاد ببعض أحكامه.. إلا أنّ عبارة «حكم قراقوش» مضت وانتشرت فلا يكاد أحدٌ يستشهد بظلم إلا ذكرها!
في محاضرة الإعلام العدلي التي نظّمتها وزارة العدل بالتعاون مع معهد الأمير أحمد بن سلمان للإعلام التطبيقي قبل أيام قلائل، كنت أحدُ المتحدثين حول علاقة العدالة والقضاء بالإعلام، وطرحت ورقة عمل بعنوان «الإعلام العدلي.. لكي لا يُوْلد قراقوش آخر!».
حاولت أن أقارب أمام الصحفيين دور الإعلام وأدوات التأثير في حَرْف الحقيقة والعدالة عن مسارهما في حكاية قراقوش القديمة بما يمكن أن يمارسه الإعلام، الذي لا يتثبَّت في نقل الحقيقة وتحقيق وقائعها والتثبّت من شهودها في الجانب العدلي اليوم، قلت للزملاء والزميلات: إن قصصًا عديدة تناقلتها وسائل الإعلام المحليَّة، ثمَّ أصبحت مادة للجدل في الإعلام العالمي وأروقة العدالة الدوليَّة تبيّن لاحقًا بعد التثبّت أنّ تفاصيلها تناقض الحقيقة.
قلت في محاضرتي للزملاء والزميلات: إن الالتزامَ بالضوابط المهنية والقانونية في تغطية قضايا العدالة لا يمثِّل قيدًا على حرية الصحافة.. وأننا حين نطرح هذه الضوابط فإننا لا نطرحها من زاوية أخلاقيَّة أو مهنية محضة رغم أهميتها، بل إن الهدف الرئيس منها هو حماية الحُرِّية الممنوحة للصحفيين نفسها.. فالواقع والشواهد في جميع دول العالم تكشف أن حرية الإعلام دائمًا ما تنتقص أمام انتهاكات وسائل الإعلام لحقوق الأفراد.. والمتابع لتطوّرات وجدل حرية الإعلام في الغرب مثلاً يدرك الاتجاه المتزايد في البرلمان الأوروبي مدعومًا بالرأي العام لفرض المزيد من القيود بعد حادثة موت الأميرة ديانا.
أخيرًا فقد اختزلت إحدى المغردات في تويتر واسمها عهود البراهيم العلاقة بين الإعلام والعدالة في أحد تعليقاتها على مجموعة تغريدات لي حول الإعلام العدلي قائلة: «الإعلامُ والعدالةُ كيانان لخدمة الإِنسان؛ فالإعلام يوصل صوتًا والعدل ينصف حقًّا... وهما يتحدان ولا يتعارضان».
عبر تويتر: fahadalajlan@