في كلِّ مشروع إصلاحي - إحيائي أو نهضوي - تنويري، تتربع «التربية» على رأس هرم الأولويات، فدولة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم قامت في الأساس على التربية، بل إن الله عزَّ وجلَّ هو من تولى تربية محمد عليه الصلاة والسَّلام منذ لحظة ميلاده وحتى يوم وداعه هذه الدنيا.. وتعزَّزت وقويت تربية الله لرسوله عندما تنزل عليه الوحي في غار حراء.. ودخلت مرحلة جديدة حينما بدأ محمد وصحبه تأسيس دولة الإسلام في أرض يثرب، مثله في ذلك مثل بقية الأنبياء والرسل الذين سبقوه..
وفي عالم اليوم وعند سبر أغوار المشروعات النهضوية العالميَّة سواء الغربية منها أم الشرقية، الياباني والأمريكي والأوروبي والروسي والماليزي و.. نجد أنها كلّّها في الأساس مشروعات تربويَّة قبل أن تكون تعليميَّة أو تدريبية، ولذا لم يكن بدعًا من الفعل تبديل وزارة المعارف اسمها إلى وزارة التربية والتَّعليم، ولكن هذا التغير لم يتبعه -وللأسف الشديد- تغير في ترتيب الأولويات «التربية قبل التَّعليم»، والتركيز بشكل أكثر على المنهج التربوي الصحيح بعيدًا عن التوظيف أو التهميش أو الاستغلال، مع أننا اليوم في عالم يسهل على الصَّغير قبل الكبير الوصول إلى المعلومة والحصول على المعرفة، فبمجرّد ضغطة واحدة ينفتح العالم بين يديك، وبالإجماع الصعوبة الحقيقية والتحدي الصريح هو «تربيتنا لجيل اليوم « - الذي يختلف حاله ويتباين زمنه - على كيفية التعامل مع هذا العالم المفتوح.
لقد كشف التطوّر المذهل في عالم التقنية كم نحن بحاجة إلى إعادة النظر في بنائنا التربوي السعودي، مع أننا كثيرًا ما نفخر ونتفاخر بانتمائنا إلى دين قيمي بامتياز، يُعدُّ «المعاملة هي الدين» كما صحّ عن سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
هناك خللٌ كبيرٌ في تكويننا التربوي ولا يمكن أن يعالج هذا الخلل بالمسكنات والمهدئات، بل لا بد من التشخيص الصحيح أولاً، ثمَّ استئصال الورم واقتلاع الداء من جذوره.
العادات والتقاليد غطاء ثقيل على عقول الكثير منّا، والفردية والأنانية سمة البعض منّا، والاحتقار والازدراء للآخر أيًا كان سجية لشريحة عريضة فينا، وعدم الاكتراث بالنظام، واللا مبالاة بالمسئولية... سيل من الأخطاء ترتكب ونوصم بها وللأسف الشديد، خاصة من قبل أولئك الذين ينظرون لنا من خارج الصندوق، ممن يقابلوننا في شارع الحياة سواء، أكان ذلك حين نحلّ ضيوفًا عليهم في ديارهم، أو أنهَّم قطنوا بلادنا وعاشوا معنا فترة من الزمن فعرفوا عنّا وشاهدوا منّا ما يبرهن على صدق ما قالوا ووصمونا فيه عربًا كانوا أو أجانب، سياحًا أو مقيمين.
عمومًا أنا لست هنا في مقام المثبت أو النافي، وليس دوري تقمص شخصيَّة المحامي عن المجتمع السعودي، وليس لديّ دراسات علميَّة متخصصة أبني عليها وأحكم من خلالها، ولكنني أحببت التأكيد أن جميع مشروعات الإصلاح التي رفع لواءها وانبرى لها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله ورعاه- تتكسر أعمدتها وتتهاوى أسقفها وتنهار قواعدها إذا لم يصاحبها منذ البدء مشروعات تربويَّة مدروسة ومن مرحلة رياض الأطفال وصولاً إلى أعلى الدرجات العلميَّة.
إن سن القوانين وفرض العقوبات والمراقبة ومن ثمَّ المحاسبة والعتاب لا شيء إِذْ لم يواكب التكوين العلمي والبناء المهاري للنَّشء غرس ضمير حي في نفوس أبناء هذا الوطن المبارك.
إننا ونحن نستقبل عامًا دراسيًّا جديدًا مدعون كل حسب موقعه في خريطة الوطن أن يكون هو في ذاته قدوة صالحة للجيل، وأن يعمل جهده ليكون من تحت يده مواطنين صالحين بكلِّ دلالات ومشاهد وقنوات الصلاح التي نخطب ودها ونبحث عنها في قواميسنا التربويَّة والإرشادية، ليس هذا فحسب، بل لا بُدَّ أن نعمل جادين لبناء مشروعات للإصلاح تتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح الغير أو بأساليب علميَّة - عملية صحيحة، ومتى تحقق ذلك، ووجد التعاون والتكاتف بين مؤسسات التنشئة التربويَّة المختلفة سيحترم النظام، وتهون وتسهل مسئولية هيئات المراقبة والمتابعة ومكافحة الفساد، وسنمزق أوراق ودفاتر الحضور والغياب، وسيقل أثر العادات والتقاليد على سلوكنا اليومي، وسنكون بإذن الله مفاتيح خير مغاليق شر، جنود وطن وحماة عقيدة وحراس قيم وفضيلة، وسينجح في النهاية مشروعنا الإصلاحي، وستنهض وتتقدم تنميتنا المستدامة التي لن يكون لها حضورها الفاعل وقوته الضاربة دون تكاتف الجميع أصحاب الضمائر الحية والبصائر النيّرة، دمتم بخير وإلى لقاء والسَّلام.