ما شهدته (مصر) خلال الأسبوعين التاليين لفض اعتصامي مسجد (رابعة) في شرق القاهرة، وميدان (النهضة) في غربها.. كان مراً، كان علقماً.. تجرعه المصريون بصبر وإيمان، وبكاه العرب جميعاً من غير (الجماعة) وتابعيهم من (المُضَللين) و(المُغيبين)..
لأنهم كانوا يعرفون بأن ذلك هو ثمن استردادهم لحريتهم وإرادتهم و(ثورتهم) التي اختطفتها (الجماعة) وطارت بها، ليتربع الدكتور محمد مرسي العياط.. في قصر (الاتحادية) كأول رئيس لجمهورية مصر (الثانية)!! تحت اضطرار ثوار الخامس والعشرين من يناير والمعارضين الكثر من أمثالهم، واستسلامهم جميعاً لـ (قدر) لم يكن لهم منه مفر: إما (مرسي) وخطورة (جماعته) التي يعرفونها جميعاً.. وإما (شفيق) وما يمثله من عودة لـ (الحزب الوطني)، وفساده ونهبه، وبيعه لأراضي وقلاع مصر الصناعية والتجارية بأبخس الأثمان.. مع نغمات (التوريث) المصاحبة.. التي كانت وكأنها النشيد الوطني القادم.
لكن ذلك كله.. ما كان ليحدث، لولا “خطيئة” المستشار حاتم بجاتو التآمرية، الذي أشار على المجلس العسكري الأعلى الذي حكم مصر لستة عشر شهراً بعد سقوط (مبارك).. بـ (فكرة أن تجري انتخابات مجلسي الشعب والشورى.. “أولاً” قبل وضع الدستور)!! وهو أمر لم يعرفه علم وعالم السياسة وسقوط الدول وقيامها.. فكان أن أدى بنتائجه الكارثية فيما بعد إلى انتخابات رئاسية أوصلت (مرسي) ذاهلاً إلى (الرئاسة) بأقل من ستة ملايين صوت من الخمسين مليوناً ونيف الذين يحق لهم الاقتراع، ولكنه سرعان ما نفض عنه حالة (الذهول) وعدم التصديق في أن يصبح سجين (وادي النطرون) الهارب السنة الماضية.. (رئيساً) لمصر في السنة التالية!؟ ليبدأ من فوره.. وبعد اثنين وأربعين يوماً من ولادة رئاسته المتعسرة إصدار أخطر قراراته بـ (إلغاء الإعلان الدستوري المكمل) الصادر عن المجلس العسكري الأعلى قبل توليه بثلاثة عشر يوماً.. مع قرارات ثلاثة تخول له كامل السلطات والصلاحيات، ليصبح بين عشية وضحاها (الديكتاتور) الخلف.. لـ (الديكتاتور) السلف!
* * *
لكن (المعارضة) بطبقاتها العريضة المختلفة.. من أحزاب مصر السياسية، ونقاباتها العتيدة، وجمعياتها العلمية والأدبية والفنية المتعددة.. إلى جماعة (كفاية) و(ستة إبريل) إلى جانب شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير، الذين صنعوها بـ (لغة العصر): (الفيس بوك) و(تويتر) - ثم أسفر ليل نضالهم واعتصامهم ومظاهراتهم والمئات من شهدائهم والآلاف من جرحاهم عن (صبح) يتربع فيه (إخواني) في قصر الاتحادية!! لم يتذكر أحداً منهم إلا في آخر وأطول وأسوأ خطبه (ساعتان ونصف) - كانت تراقب أداءه السياسي المتعثر داخلياً، والمثير للشفقة والضحك معاً خارجياً.. طوال الستة شهور الأولى من رئاسته، فلم تجد فيه رئيساً لـ (مصر) بحجمها وتاريخها ومكانتها.. بل رئيساً لـ (الجماعة) في مصر، له رئيسه ومرشده (الدكتور البيطري محمد بديع).. الذي بايعه بيعة نصوحة، وأصبح في يده كـ (الميت في يد غساله).. كما وصف تلك (البيعة) المحامي والأديب وعضو (الجماعة) الذي غادرها بعد قرابة عشرين عاماً: الأستاذ ثروت الخرباوي.. في كتابه الكاشف والفاضح للإخوان (قلب الإخوان). همه الأول - وبأقصى سرعة - (التمكين) لـ (جماعته).. ولكنه فوجئ بما لم يكن في حسبانه وتقديره، عندما أصدرت (المحكمة الدستورية العليا) حكمها بـ (إلغاء) انتخابات مجلس الشعب (الإخواني) الذي أطار صوابه، فما كان منه.. إلا أن يعلن بجهل وعنترية عن رفضه لـ (حكم المحكمة)، وهو يأمر رئيس المجلس (الإخواني) الدكتور سعد الكتاتني في ذات اللحظة .. بـ (استئناف) عقد جلسات المجلس، وكأن شيئاً لم يحدث، إلا أنه عاد عن ذلك بعد أن تصدى له بشجاعة قضاة المحكمة، وجمعيتها العمومية، ورئيس ناديها المستشار الصلب (أحمد الزند).. في مشاهد ومهاترات - على الهواء مباشرة - لم يعرفها تاريخ مصر الدستوري الناصع منذ دستور 1923م، فبلع هزيمته.. وأغلق مجلس الشعب (النواب) أبوابه، إلى حين أن تنتهي (تأسيسية المئة) المعطلة بانسحاب ثلاثين عضواً من أعضائها من صياغة (الدستور الجديد)، ونظراً لاستعجاله في تمكين (الجماعة) من الاستيلاء على مفاصل السلطة بدءاً بكتابة (الدستور) على هوى (الجماعة).. فقد أخذ قراره - الأحادي - بإعادة تشكيل تأسيسية جديدة لصياغة الدستور من (الجماعة) وأنصارهم السلفيين آنذاك وحدهم.. إلى جانب (المؤلفة أحلامهم) من أنصارهما، مع الالتفاف على حكم المحكمة الدستورية.. بإحالة صلاحيات مجلس الشعب (النواب) إلى (مجلس الورى) في سابقة لم يعهدها تاريخ البرلمانات، ليتولى هذا المجلس (الشورى) وقد كان (إخوانياً) بكامله.. مراجعة الدستور الذي تم طبخه ومراجعته وصياغته في ثلاثين يوماً، ليجري الاستفتاء عليه بعد خمسة عشر يوماً من اطلاع (الرئيس عليه)!!
ورغم فضيحة الاستفتاء على (الدستور) بنسب حضوره المتدنية (36%) في ظل مقاطعة (المعارضة) له.. ولكتابته.. ولمراجعته والاستفتاء عليه إلا أن (مرسي) كان سعيداً بهذا (الدستور) الذي وصفه بـ (المعيب) في آخر خطبه.. إلا أنه ظل ساعة صدوره أعظم دستور - من وجهة نظره - لأنه لم يدعُ في أي مادة من مواده إلى انتخابات رئاسية جديدة كما دعا لانتخابات جديدة لمجلسي (الشعب) و(الشورى)، ليمضي (مرسي) في خارطة (التمكين) الإخوانية.. بادئاً بوزارة (هشام قنديل)، ليخوض بعدها معركة إبدال النائب العام - رغم حصانته الدستورية من الإقالة أو الإبعاد - بنائب عام إخواني (طلعت عبدالله)، وهو ما أوصله في نهاية المعركة.. إلى أن يطلب من وزير داخليته محاصرة (المحكمة الدستورية) ومنع قضاتها من دخولها وأداء أعمالهم في سابقة - ثالثة أو رابعة.. وما أكثر سوابقه - لم تعرفها المحاكم الدستورية في طول الدنيا وعرضها، فإبدال (القيادات الصحفية والإعلامية) بحجة أنهم من (الفلول) وصنائع الحزب الوطني المنحل، فتغيير (المحافظين) بسبعة من (الإخوان) وآخرين من (المؤلفة أحلامهم).. حتى اضطر مواطنو محافظة الأقصر إلى الوقوف سداً على بوابتها لمنع المحافظ (الإخواني) الجديد - المتهم في مذبحة السياح اليابانيين عام 1997م - من الدخول إلى مبنى المحافظة.. ولأول مرة في تاريخ الدولة المصرية عبر كل أحقابها.
فإذا كان مفهوماً أن يرفض (الرئيس) تعديل أو تغيير اللجنة الانتخابية العليا التي ستشرف على الانتخابات القادمة في أيامه.. حتى يضمن قيام (مجلس شعب) إخواني جديد كسابقه الذي تم حله، فإنه كان من غير المفهوم أن يرفض الرئيس طلب القائد العام للقوات المسلحة الفريق عبدالفتاح السيسي بـ (إغلاق) الانفاق غير الشرعية بين (غزة) و(سيناء) حفاظاً على أمن مصر القومي مع بقاء ممر رفح الشرعي مفتوحاً.. إلا أن (إصرار) الرئيس مرسي على عدم إغلاق تلك الأنفاق غير الشرعية وهي بالمئات، سرعان ما انكشفت أسبابه بعد عزل الرئيس.. من خلال خطب القيادي (الإخواني) (محمد البلتاجي)، الذي كان يجأر بصوته (الحياني) المسجل في ميدان رابعة قائلاً: (إذا أردتم إيقاف الهجمات على جنود ومراكز الحدود في سيناء.. فأعيدوا الدكتور مرسي إلى الرئاسة)!!
* * *
لقد كانت (المعارضة) بكل أطيافها.. تتابع ما يجري من أخطاء وجرائم وسُعار (إخواني) في الاستيلاء على كل مفاصل الدولة.. بينما حكومة (مرسي وقنديل) تصنع الأزمات المعيشية ولا تحلها من (الرغيف) إلى (السولار) و(البنزين) إلى الكهرباء التي أخذت تنقطع بالأيام، وهي تغلي وتزبد.. ولكن دون أن يُقدر لها أن تفعل شيئاً، إلى أن خرجت من رحم (جبهة الإنقاذ) المعارضة.. أو إلى جوارها (حركة تمرد)، التي أخذت تدعو المصريين جميعاً إلى (عزل) الرئيس مرسي وإجراء انتخابات رئاسية جديدة مبكرة، وهي تقدم استمارتها (تمرد) لكل مؤيدي دعوتها.. لتوقيعها بالموافقة وتفويض (الحركة)، لتفاجأ (الحركة) بتلك الأعداد المهولة التي أخذت تتسابق على توقيع استمارتها.. وهي تقفز في أيام من الآلاف إلى الملايين معبرة عن رفضها لـ (مرسي) ولوزارته ولـ (الجماعة) التي انشغل (مرسي) بـ (التمكين) لها بدلاً من أن ينشغل بتحقيق (أهداف) ثورة الخامس والعشرين من يناير (عيش، حرية، كرامة، عدالة اجتماعية) التي حملته إلى (قصر الاتحادية) في مصر الجديدة، لتقرر الحركة دعوة مؤيديها للتواجد بميدان التحرير في الثلاثين من يونيه - الماضي -، فكان أن رد مكتب إرشاد (الجماعة) على استمارة (تمرد) باستمارة (تجرد) دعماً لـ (شرعية الرئيس)..!!
لقد كان رسام (الكاريكاتير) بصحيفة (المصري اليوم).. بارعاً في قراءة المستقبل واختراقه عندما نشر في التاسع من شهر يونيه (كاريكاتيراً) يصور فيه لجنة من لجان امتحانات الثانوية العامة و(الطالب) محمد مرسي يقبل عليها لأداء امتحانه!! ليقول له مراقب اللجنة: (قلتلك لجنتك مش النهاردة.. امتحانك في 30-6)..!!
ولكن قبل أن يأتي يوم الثلاثين من يونيه.. كان (مرسي) وجماعته، يرتكبون المزيد من الأخطاء الوطنية الجسيمة، والحماقات السياسية الكبرى.. بما لا يخطر على عقل بشر: كان (أولها) وأعجبها.. الدعوة لإنشاء جيش (إخواني) حر، ليواجه الجيش المصري النظامي عندما تحين ساعتها، عن طريق إرسال متطوعين إلى (تركيا) للتدريب على حمل السلاح بحجة إرسالهم إلى (سوريا) لنصرة (السنَّة)، ثم العودة إلى مصر للقيام - بداية - بانقلاب إخواني للاستيلاء على قيادة القوات المسلحة المصرية!! وكان (ثانيهم) تجميع أكبر حشد من أعضاء (الجماعة)، ومؤيديهم من (المؤلفة جيوبهم) في اعتصام (رابعة) انتظاراً للحظة المواجهة المحتملة.. حتى تحول الاعتصام السلمي - كما ظلوا يدعون.. هم وقناة الجزيرة وإعلاميها (أحمد منصور) المخلص لـ (الجماعة) والذي انكشف تزويره الإعلامي - إلى قاعدة حربية، لم يكن ينقصها غير الدبابات والطائرات المقاتلة.. عندما تم اكتشاف ما بداخل الاعتصام عند فضه فيما بعد.. في الثاني عشر من شهر أغسطس الماضي، على أن (البيزنس) أو الإتجار بـ (الاعتصام) لم يكن غائباً كعادة (الجماعة)، فـ (الانضمام) للاعتصام بـ (مائتي جنيه).. و(المبيت) بـ (ثمانمائة جنيه)!! في أغرب وأطول اعتصام عرفه تاريخ الاعتصامات السياسية.. يستحق معه الدخول إلى موسوعة (جينيس) للأرقام القياسية..! وكان (ثالثهم) فضيحة نقل الجلسة التشاورية التي دعا لها (الرئيس) حول (سد النهضة) الأثيوبي.. على الهواء مباشرة دون علم أكثرية حضورها، وما جرى فيها من تبادل للرأي.. أو من (خبل سياسي) على وجه الدقة.. حول ضرب موقع السد بالمقاتلات المصرية، حتى تأتي (أثيوبيا) البلد الأفريقي الصديق لمصر - الذي أمَّن عبدالناصر على اختيار عاصمته (أديس أبابا) لتكون (مقراً) لمنظمة الوحدة الأفريقية - صاغرة تطلب (رضا) مصر الإخوانية!!
* * *
كان واضحاً أن (مرسي) وجماعته ومرشده.. لم يفرقوا بين إدارة (الدولة)، وإدارة (الجماعة) بـ (شعبها)، و(مناطقها) و(محافظاتها) وبـ (بيعتها) الكهنوتية المغمضة العينين، فظنوا أن مصر هي الـ(جماعة الكبرى)، وأن ما انطلى على جماعتهم (الصغرى) من كهنوت وكذب واستبداد، يمكن أن ينطلي على (الجماعة الكبرى) - مصر -، دون أن يعيروا التفاتاً لما كان يقوله ويردده صباح مساءً علماء مصر وأدباؤها وفنانوها وأساتذتها في شتى حقول المعرفة.. من أن مصر بحضارتها وتاريخها وثقافتها وفنونها وآدابها يستحيل وضعها في قنينة إخوانية في جيب (الجماعة) أو (المرشد) أو تلميذه (مرسي).. بدليل أنهم حتى آخر لحظة من أيام اعتصامهم في ميدان رابعة العدوية.. كانوا مازالوا يدلسون، وهم يهللون ويكبرون بأن مَلَك الوحي (جبريل) عليه السلام.. كان يصلي معهم صلاة التراويح، ليساقوا إلى موعدهم.. إلى (الثلاثين من يونيه)..؟
وللحديث بقية.
abnthani@hotmail.comجدة