كلمة المتوسطي في مدلولها اللاتيني تعني الفضاء «في وسط الكرة الأرضية»، وهو هذا الفضاء الواقع بين جنوب أوروبا وشمال إفريقيا، والممتد شرقاً إلى لبنان وفلسطين، والمتاخم لكل من تركيا واليونان وإيطاليا ومختلف الجزر والمنتهي في مضيق جبل طارق.
أما الخريطة الجيو - سياسية للبحر الأبيض المتوسط، فتمتد اليوم إلى داخل بحر الأدرياتيك لتشمل ألبانيا، البوسنا والهرسك، الجبل الأسود وسلوفانيا.
إنه فضاء ذو تاريخ غني، مثمر وخصب للغاية، أعطى الكثير من العلوم والمعارف للعالم في مختلف المجالات مثل العلوم، الثقافة، الرياضة (الألعاب الأولمبية)، الهندسة المعمارية، الرومانسية، الفلسفة، الدين، الأدب، الفن، الطبخ، السياحة، الهندسة المدنية (أنابيب المياه وتصميم المباني وأشياء أخرى من الإنتاج المبدع للرومان)، بناء السدود، نظام الري وإنتاج الماء الصالح للشرب.
إنه منطقة السلم واللقاء والتبادل في نفس الوقت، ولكن هو أيضاً فضاء هيمنت عليه الفتوحات والحروب والإمبراطوريات تاريخياً... فهو خليط من الشعوب والثقافات والحضارات المتعددة مثل حضارة ما بين النهرين، ومصر (الفراعنة)، مقدونيا (الإسكندر الأكبر)، فارس، الفينيقيين، قرطاج، أثينا، روما، فينيسيا، مراكش وفاس، كما عرفت سيطرة شعوب مختلفة تضم ما ذكرناه آنفاً إضافة إلى الأتراك والعرب والأمازيغ (شمال إفريقيا).
كما تضم منطقة البحر الأبيض المتوسط حوالي 150 مليون نسمة، وتستقبل ما يقارب 200 مليون زائر سنوياً، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم سنة 2020. وتتوفر المنطقة أيضاً على تنوع بيولوجي غني جداً ويمثل حوالي 8-10 في المائة من التنوع البيولوجي العالمي: 12000 نوع بحري و20000 نوع نباتي، وتتوفر تركيا على أكبر تنوع بيولوجي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، يليها المغرب. كما يتميز الفضاء المتوسطي عموماً بمناخ جاف وتهاطلات مطرية ضعيفة ومتنوعة. أما الماء فهو شيء نادر ونفيس، وتزداد ندرته تدريجياً مع التغيرات المناخية.
كما تمر منه أكثر من 120000 باخرة سنوياً، 20 في المائة منها بواخر ناقلة للنفط و30 في المائة بواخر تجارية آتية من مختلف مناطق العالم، مما يؤدي إلى مشاكل متعددة كالتلوث وتقليص عدد كبير من الأنواع البحرية والموارد السمكية.
إضافة إلى كل هذا، فمنطقة البحر الأبيض المتوسط منطقة حساسة شيئاً ما بالنسبة للتغيرات المرتبطة بالأزمة العالمية الموسومة بسياسة متغيرة وعولمة متسارعة دون نسيان البعد عن الإيمان بالقواسم المشتركة مع ظهور تطرف ديني وقومي سواء في الشمال أو في الجنوب.
وأوافق هنا زميلي الأستاذ مصصفى بوسمينة، رئيس الجامعة الأورومتوسطة، عندما يكتب في الدليل المغربي للاستراتيجية والعلاقات الدولية، إنه لا يمكن حل كل هذه المشاكل الناجمة عن النشاط البشري القوي وآثار التغيرات المناخية والتراجع الأخلاقي والوطني إلا من خلال رؤية إقليمية مندمجة وتشاور وثيق وتعاون بين ضفتي المتوسط. ونظراً لغياب رؤية سياسية واقتصادية مشتركة، فإن الشراكة الإقليمية تخص عدة مجالات خاصة البيئة، الماء، الطاقة، الفلاحة، الصيد، السياحة، النقل، التخطيط الحضري، الصحة والأمن.
ولمواجهة كل هذه القضايا وتحديات العولمة المتسارعة، ليس أمام الفضاءات المتوسطية والأورو-متوسطية إلا خيار واحد وهو تعزيز وتقوية الشراكة شمال - جنوب وخلق اندماج إقليمي حقيقي. وهذه الشراكة ليست حلماً بسيطاً لجهة ما في المنطقة، وإنما هي ضرورة جيو - استراتيجية واقتصادية تفرض نفسها اليوم أكثر من أي وقت مضى. فأكيد أن للعولمة آثاراً عديدة، لكن أحد هذه الآثار يستحق الانتباه والتحليل ويتعلق الأمر بالولوج المعمم إلى المعلومة وإلى المعرفة والمهارة، مما يترتب عنه إعادة توزيع المادة التكنولوجية وتطورها.
فقبل مجيء الإنترنيت، كان الوصول إلى المعلومة موقوفاً على الدول المتقدمة، وكانت الخريطة الاقتصادية تستند على إنتاج السلع من طرف الدول المتقدمة واستهلاكها من طرف دول العالم والدول المتخلفة بشكل خاص، غير أن الوصول إلى المعلومة بصفة عامة وإلى المعلومة العلمية والتقنية والتكنولوجية بصفة خاصة، أظهر فئة أخرى من الدول تسمى «الدول الصاعدة». فهذه التسمية الغائبة عن القواميس منذ حوالي عشرين سنة، تخص الدول التي عرفت كيف تستفيد من الوصول إلى المعلومة والتكنولوجيا بفضل الاستثمار القوي في التعليم والبحث والابتكار. وبعد التشبع بالتكنولوجيا والتمكن منها، بدأت هذه الدول في تطوير تكنولوجيات خاصة بها، كما بدأت تنافس الدول المتقدمة، في مجالات ضيقة في البداية، ثم في مجالات أوسع لاحقاً لتصل إلى مجالات عالية التكنولوجيا.
وقد تغيرت أيضاً قيم الإنتاج مع الاهتمام المتزايد بالمساعدة الخارجية، فبعد أن كانت مجموع مكونات المنتوج تصنع محلياً، أصبحنا اليوم نعيش مقاربة جديدة حيث تولد أغلبية الأفكار المبدعة والتصورات في بلد ما، والمكونات تصنع في بلدان أخرى كما يتم التجميع في بلد ثالث، أما المنتوج النهائي فيباع على المستوى الدولي. كل هذا فتح أسواقاً جديدة أمام البلدان الصاعدة والبلدان السائرة في طريق النمو التي تتوفر على أيادي عاملة رخيصة لكنها متعلمة ومؤهلة.
ويتجلى الأثر الثاني للعولمة في حركية الأشخاص والسلع والاستثمارات التي بدأت تتم في اقتصاد دون حدود، حيث تركت السياسات الكبرى مكانها للاستراتيجيات المالية التي تتجاوز أحيانا مراقبة وعمل الأمم، بل إن مفهوم المقاولة نفسه تغير. فعلى العموم، كانت المقاولات، فيما سبق، مقاولات عائلية أو تابعة للدولة، وكانت ولايتها تتمثل في إغناء العائلة أو المساهمة في تنمية الاقتصادات الوطنية، لكن، ومع العولمة، ترك هذا المفهوم مكانه في أغلب الحالات للمقاولات ذات الاستثمار الدولي (تم تحويل أصول المقاولة إلى أسهم في البورصة)، تتدخل فيها مجموعات من المستثمرين أو مستثمرين أفراد من مختلف مناطق العالم، هدفها الأول البحث عن مصلحة المساهمين لا المصلحة الوطنية، وذلك بغض النظر عن المكان الجغرافي لأصل المقاولة. كما تم وضع سياسات ضريبية في الدول الصاعدة والدول السائرة في طريق النمو من أجل جلب ونقل المقاولات الأجنبية للاستفادة أكثر من المزايا الضريبية المهمة ومن اليد العاملة الرخيصة والمؤهلة.
بعد هذه المرحلة الأولى والمتعلقة بنقل المقاولات على أساس الحد من التكلفة، استطاعت بعض الدول الصاعدة والدول السائرة في طريق النمو أن تتموقع على مستوى بعض التكنولوجيات العالية، حيث بدأت تطور وتصنع بنفسها مكونات وآليات عالية التقنية، تنافس بها تلك الموجودة في البلدان المتقدمة. فعلى سبيل المثال، عرفت كوريا الجنوبية والبرازيل في الستينيات نمواً ضعيفاً وكان ناتجهما المحلي الخام يساوي الناتج المحلي الخام للبلدان الإفريقية وأقل من الناتج المحلي الخام للبلدان الأكثر فقراً في أوروبا. أما اليوم، فهذان البلدان يعتبران من بين القوى الاقتصادية الخمسة عشر في العالم.
كل هذه الأحداث، إضافة إلى إرادة كل بلد في ضمان أمنه وتنميته، ساهمت في تغيير الخريطة الجيو-سياسية والاقتصادية للعالم. كما عملت أيضاً على نقل المركز الاقتصادي العالمي لأمريكا الشمالية نحو آسيا (المنتج والممول الكبير للسلع)، كما طرحت مجموعة من التساؤلات بخصوص المركز السياسي المقبل الذي تتنافس عليه كل من الولايات المتحدة وأوروبا وتحالف بعض الدول خاصة الصين وروسيا. وأدت هذه الدينامية الاقتصادية العالمية الجديدة، الموسومة بتنافسية قوية، إلى تكوين شراكات إقليمية مختلفة، والتي تتخذ أشكالاً وأنواعاً وبأهداف متنوعة حسب مختلف مناطق العالم، لكن بنفس الغاية وهي ألا تظل معزولة، وحتى تستفيد بشكل كبير من التجمع لتعزيز مكانتها الاقتصادية / السياسية.
وللحديث بقية.