والسخرية عند الدبل اتضحت من خلال تغيير اسم الشاب إلى كواكب، ومن خلال إيجاد شخصية أخرى وهي «أسماء» التي شاركت الشاعر في تسليط الضوء على ما اعتاد هذا الشاب أن يفعله من تزجيج للحواجب وصبغ للخدود ولبس للخواتم النسائية ومياعة في المشي هذا بالإضافة إلى استعماله لأغراضها الخاصة كالخاتم والحناء ومشط شعرها وغير ذلك، والجدير بالذكر أن هذا الموضوع -أعني الحديث حول العادات السيئة لبعض الشباب- طُرق من قبل الشاعر محمد السنوسي أيضاً في قصيدة بعنوان «القرد الفنان»، وعند عبدالمحسن حليت.
وقد توسعت القضايا الاجتماعية عند بعضهم فشملت الاتجاهات الفكرية والأدبية التي تجدّ على المجتمع، كما نجد في قصيدة ناصر الزهراني التي بعنوان «هموم شاعر حداثي» والسخرية تلوح في القصيدة من خلال استخدامه لبعض الصور الغريبة، تلويحاً منه باستخدامات بعض الشعراء الحداثيين -كما يرى- وذلك في مثل قوله مخاطباً محبوبة متخيلة:
ياليت عندي أجنحهْ أطير كالذبابْ../أدخل من ثقب كل بابْ../ آتيك دائما في فترة المبيت../ ولا أجي في فترة النهار../ لأنني أخشى من الفليت
كما أن السخرية تتبدى من خلال عرضه لبعض أفكار الحداثة المتطرفة كما في قوله:
وأنني متْحرر وثائرٌ كالثور والحداثة../ وقدوتي لينين أو أمثاله من العباقرة../ أسلك كل مسلكٍ من أجل تحقيق المنى حتى ولو خبيثْ../ حتى ولو يخالف القرآن والحديث../ فهكذا علمنا أسيادنا من سادة الحضارة والفكر والمهارة../ فنحن عندهم جنودْ / نسعى ونبغي دائما حريةً مطلقةً بدونما قيود/ولانريد أن يحدنا حدود / ولانتابع الجدود/فنحن لسنا ببغة../ ولاعبيداً للغة../ وكل موروث وماضٍ همنا بأن نمرّغه../ فشاركيني في جهادي الكبير/ لنستقي إبداعنا ومجدنا من مثل شكسبير/ وكارل ماركسٍ وسنت بيف/ وغيرهم وغيرهم من قادة الفكر النظيف.
والحديث عن الأمور الثقافية نجده ماثلاً أيضاً في قصيدة عبدالله بن خميس حين يسخر من أحدهم وقد ادعى القدرة على قول الشعر، وكذلك عند علي العيسى حين يسخر من بعض الصحف والجرائد.
2- السخرية الذاتية
قد يسخر الشاعر من نفسه أحياناً، على سبيل الفكاهة، أو ليجعل من نفسه أنموذجاً يسلط من خلاله الضوء على ظاهرة معينة، وهذا النوع من السخرية يتطلب –كما ذكرت آنفاً- ثقة كبيرة بالنفس وقدراً عالياً من قوة الشخصية.
والحديث عن كساد الشعر وقلة من يتذوقه، وبالتالي الإحساس الضمني بالهوان وسط المجتمع، كل ذلك تعرض له الشعراء الساخرون، كحمزة شحاتة وحسين سرحان وحسن السبع، فحسن السبع يقول مخاطبا الشاعر عموماً:
ديوان شعركَ سعره.. في السوق سعرُ السندويشة
ويقل عن سعر المعسّل.. عابقاً في جوف شيشة
يامن يعيش على القصيد.. أفقْ فما في الشعر عيشة
ومن السخرية الذاتية التي تسلك سبيل الشكوى قصيدة بعنوان «فيم العناء» لغازي القصيبي، وهي عن الوظيفة إذ نراه يسخر من رتابة الحياة الوظيفية المملة وما يتخللها من صرامة، وذلك حيث يقول مثلاً:
أفيق مع الفجرِ../أشرب شاي الصباحْ/ أسير إلى غابة الأمس واليومِ /حيث تسيل الدماء/ أصافح نفس الأيادي المليئة بالعطر والمكر../ ألمح نفس الرياءْ/ ونفس الخداع../ونفس الغباءْ/ ففيم العناءْ؟/ ففيم العناء؟
ثم يقول في مقطع آخر:
وألهو بنفس القراراتِ../أهذي بنفس الخطاباتِ../أسمع نفس الغناءْ/ أطوف بنفس الجموعْ/ وأبصر نفس الدموعْ/ وأضحك حين يشاء القضاءْ/ وأحزن حين يشاء القضاءْ/ ففيم العناء؟/ ففيم العناء؟
ولعل الروح الساخرة لاتتبين بشكل واضح إلا بعد تأمل المقطع الأخير من القصيدة حين يقول:
وحين أغيبْ/ وراء المغيبْ/ يقولون كان عنيدا/ وكان يقول القصيدا/ وكان يحاول شيئاً جديدا/ وراح وخلّف هذا الوجودا/ كما كان قبل غبياً بليدا/ ففيم العناء؟/ ففيم العناء؟
والسخرية في الأسطر الشعرية تلوح من خلال إيحاءات كثيرة كتكرار الاستفهام التعجبي «ففيم العناء؟» في نهاية كل مقطع، والاستفهام نفسه مختار كعنوان للقصيدة، ثم وصفه لنفسه على لسان الناس بعد رحيله بأنه كان غبياً بليدا عنيدا لايهتم إلا بالشعر، كل ذلك مع عدم التفاتهم لجهده ومحاولاته في سبيل الخير.
ولحسين سرحان مع الوظيفة تجربة أخرى، حيث يصف الضغوط التي يعاني منها سواء من المراجعين أم من رئيسه في العمل، يقول:
العيش بين الجن آنس موقعاً
من زحمة الكتّاب والحسّاب
هذا يجيئك باحثاً عن نمرةٍ
ويحوم ذاك على رتاج الباب
ويسومك الفرّاش شرح رسالةٍ
ويرومك الساقي لعرض كتاب
وتظل تحفر باليراع جداولاً
ولوائحاً سوداً بغير حساب
متبرماً مما يشق على النهى
متلوياً من شدة الإكباب
وترى الرئيس مناوحاً لك قائلاً
اشرح وحرّر واحتفل بجواب
بيمينه التوقيع يحسب أنه
توقيع قيصر في وغىً وغلاب
ولحسن الصيرفي سبعة نصوص شعرية في وصف سيارته، لا تخلو من السخرية من الذات والشكوى من الحال، يقول في إحداها:
و يا ويح سيارتي إنها
لها كفرات من النائمينْ
تمزقها الريح من لمسها
ويخدشها الورد والياسمين
على أنها في خريف الحياة
مديل ثمانية وأربعين
ويوم اشتكت من عناء الحفاء
وما لقيتْ من قديم السنين
تفلتُ عليها وخسّأتها
وقلتُ احمدي الله إذ تركبين
ولإبراهيم الدامغ قصيدة تتصل بالسخرية من حاله، وذلك في وصفه لغرفة بقي فيها أثناء مرضه، إذ هاجمه دبور أقض عليه مضجعه وهو لايزال متألما من جراح الكي في جسمه، وذلك حيث يقول:
لي غرفة كأنها.. ظلام نفسي الخاوية
تعجّ في غبارها.. كما تعجّ الهاوية
وتستجيب في قرا.. ها للرياح العاوية
قد خلّف الدبور فيـ.. ـها قصة وراوية
بنى على جدرانها.. معسكرات حاوية
فيها لجسمي مبضعٌ.. يلهث ناراً كاوية
يقتاتني طنينه.. خلف الثقوب الداوية
فلو تراني قافزاً.. بين السموم الطاوية
لخِلتني ملاكماً.. يجوب كل زاوية
والسخرية هنا تتضمن الشكوى والتألم، فالأبيات تشير إلى الفقر الذي يعاني منه الشاعر، وإلا لما عانى من هذه الغرفة غير المهيأة، والملأى بالغبار.
ومن السخرية بالنفس أيضاً مقطوعة حسن السبع التي بعنوان: «مشروع وجاهة» حيث يقول:
أردت أن «أكشخ» ذات يوم
وأن أصير من كبار القوم
فابتعت «بشتاً» رائع التطريز
ليصبح الصعب عليّ «إيزي»
دفعت من قيمته ألفين
نقداً وباقي سعره بالدين
ثم بدت لي فكرتي سقيمة
فبعته يوما بنصف القيمة
فالبشت فوق شاعرٍ صعلوك
كالسرج فوق بطةٍ أو ديك
والقصيدة وإن كانت باعثة على الضحك إلا أنها تتضمن إلماحات اجتماعية عديدة، كاعتماد بعض الناس على المظاهر في تأدية احتياجاتهم، وكعدم اهتمام الناس بالشعر وأصحابه.
وكذلك خليل الفزيع في حديثه عن تجربته في طباعة كتاب، حيث ذهب إلى المطبعة ووجد عاملاً لايفقه العربية، وذلك إذ يقول:
حملت كتابي إلى المطبعة.. لعلي ألاقي يداً طيعة
تساعد في نشره مرةً.. بسعر رخيص لكي أجمعه
وقابلتُ هنديّهم ماله.. يبالغ في السعر ما أفظعه!
يطالبني نصفه مسبقاً.. وإلا فلا لا ولن يطبعه
ثم يقول:
رضخت لمطلبه كارهاً
دفعتُ كتابي إلى المطبعة
أصحح بروفاته مرةً
فترجع أخطاؤه مسرعه
***
يئن كتابي أمامي فيا
لجهدي فتى الهند قد ضيعه
سحبت كتابي فيا حسرتي
وضاعت فلوسي ولم أطبعه
ويبقى الهنيديّ مستأسداً
فمن ذا يجازف أن يردعه
ومن رام رخصاً فذا
حالهيضيّع مالاً ولن يرجعه
(الجزيرة) - استاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية