قال أبو عبدالرحمن: على غزارة ما وصل إلينا من كتب التراث فلعلَّ ما لم يصل إلينا أكثر، بل هناك أئمة مكثرون في التأليف لم يصل إلينا شيء من تأليفهم ألبتة، وأهَمُّ الأسباب الجوائح الحربية التي اعتورت بلاد المسلمين، والإحراق بسبب التعصب المذهبي، والإغراق والإحراق من قبل أعداء الملة، أو من قبل جهلة الأعراب..
.. الذين يرمون النسخ الخطية في النهر كما حصل في تونس.. ومن التعصب إحراق كتب بعض العلماء في الأندلس، ثم ردُّ الفِعل بإحراق كتب الفروع في عهد الموحِّدين بالأندلس أيضاً.. ومن أهم الأسباب قِلَّةُ بعض النسخ الخطية.. ألا ترون أن كتاب الجيم في اللغة لأبي عمرو الشيباني كاد يفقد لولا الله ثم وجود نسخة سقيمة غير مُنظَّمة بخط أبي موسى الحامض، وهي في حكم المسوَّدة التي لم تُراجع؟.. ألا ترون كتب الخليل بن أحمد التي هي مصدر علم العروض لا وجود لها ألبتة؟.. ألا ترون أن الأسفار الكثيرة الحافلة عن أخبار القبائل وأشعارها ككتب أبي عمرو الشيباني لا وجود لها اليوم ألبتة؟.. وهكذا الإمام أبو سليمان داود بن علي الموصوف بذي الأسفار لكثرة تأليفه لا يوجد منها اليوم ورقةٌ واحدة.. ثم انظروا إلى أسفار كتب الحديث وأسفار كتب التفسير أصبحت أثراً بعد عَيْنٍ كمسند مسدِّد بن مُسرهد، وتفسير عبد بن حميد، وتفسير الإمام أحمد، ومسند بقيِّ بن مَخْلِد وتفسيره، وهكذا الأسفار الهائلة لابن أيمن والخشني وابن وضَّاح.. وهكذا أسفارٌ ذكروا أن منها ألف جزء ( كراسة ) وبعضها أربعمئة مجلد كالعالم والسماء لأبان من أهل الأندلس، والفنون لابن عقيل الحنبلي، وتفاسير ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي في رحلته التي طُبعت خطأ باسم قانون التأويل ؛ وإنما قانون التأويل تفسيره، وتوجد منه أجزاء خطية قليلة.. وهكذا كتب العشَّاب في الرجال وفي التفسير، وكتب ابن المغلِّس ومنذر بن سعيد.. والإمام ابن حزم له كتب تجاوز بعضها عشرة آلاف ورقة بخط مُدمج فُقِدت لا يوجد منها ورقة واحدة ككتابه في الجمع بين النصوص، وكتاب الخصال، وكتاب الإيصال.. وبعضها يُمات بالاختصار المُخلِّ ككتاب طوق الحمامة، وكتاب الروح لابن قيم الجوزية.. وهكذا كتب التاريخ والأنساب ودواوين الشعر والوثائق فيما بين القرن الثامن الهجري إلى قيام دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب في عصور الأمية بنجد.. وهناك أئمةٌ عُرفوا بغزارة التأليف كوكيع بن الجراح لم يصل إلينا من كتبه سوى كتاب الزهد، وشذراتٌ جمعها غيره من روايته.. وهناك أئمةُ فقهٍ متبوعون كسفيان بن عيينة والليث بن سعد وابن جرير الطبري لم تصل إلينا كتُبهم في الفقه، والإمام أبو عبدالله محمد بن نصر المروزي أعظمَ الإمامُ ابن حزم شأنه في الرسالة الباهرة، وقرنه بالأئمة الأربعة ولا سيما الشافعي، ووصفه بغزارة التأليف، ولم يصل إلينا من كتبه سوى كتاه تعظيم قدر الصلاة، وجزء من كتابه الكبير في اختلاف الفقهاء، واختصار كتابه في التهجد.
وهناك أئمة لم يُعرفوا بالتأليف، ولكنهم جمعوا لأنفسهم أسفاراً هائلة من روايتهم عن شيوخهم يصل بعضها إلى خمسين ألف حديث كعطاء بن أبي رباح، وعبدالملك ابن جُريج، ومحمد بن بشار بُندار رحمهم الله تعالى، ولا وجود اليوم ألبتة لهذه الأسفار الهائلة.. ولولا الله ثم مجموع ابن عروة الدمشقي لَفُقِدتْ مئات الرسائل للإمام ابن تيمية، بل وجدنا الشيخ محمد بن جمال الدين القاسمي المتوفى سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة بعد الألف ينقل في تفسيره الآية 26 من سورة الفجر من إحدى رسائل ابن تيمية التي ينفي فيها القولَ بأنه ينكر المجاز، والذي لفت النظر إلى هذا المصدر الدكتور عبدالمحسن بن عبدالعزيز العسكر جزاه الله خيراً.. ونحن اليوم لا نجد هذه الفتوى، ولا نجد في كتب ابن تيمية التي وصلت إلينا إلا إنكار المجاز بعنف، أو الوقوع فيه سهواً.. وهناك خزانات عظيمة الشأن كخزانة الفاطميين التي ذكرها المقريزي في خُططه، وذكر فيها عشرات الأسفار لا وجود لها اليوم.. بل إن الإمام ابن حزم ذكر عن تليد الخصـي أن مكتبة الحكم الرَّبضي رحمهم الله تعالى تحتوي على أسفار هائلة ضخمة، وفهرسة دواوين الشعر وحدها أربعمئة ورقة بخط مُدمج كل صفحة عشـرون سطراً!!.. فأين ذهبت هذه الآثار؟!..
والمنطقة الوسطى من جزيرتنا منذ عهد الشيخ محمد بن عبدالوهاب وما قُبَيْله إلى عهد حفيديه عبدالرحمن بن حسن وابنه عبداللطيف الأزهري رحمهم الله تعالى كانت مليئة بالمصادر من تراث الأسلاف، وقد جلب الأخيران نسخاً خطية كثيرة من مصـر؛ فمنها ما أتلفته الأرضة لرداءة التخزين، ومنها ما أخذه إبراهيم باشا فأحرق بعضه، وحَـمَل إلى مصـر وتركيا كثيراً منه، وأبقى في المدينة المنورة قليلاً.. بل ضاع من مكتبة عارف حكمت أسفار نفيسة منها رسالة للبرزنجي من أعيان القرن الحادي عشـر أيَّد فيها أبا الوليد الباجي على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب بخط يده يوم الحديبية إعجازاً من الله وآية له، وقد بينتُ خطأَ هذا المذهب في تحقيقي كتاب الباجي والردود عليه، وأنه اعتمد على رواية مختصـرة بَيَّنتها نصوص كثيرة غير مختصرة محا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وضع عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصبعه، وأنه هو الذي كتب على الممْحوِّ ما أملاه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقد ذكر الكتاني هذا المخطوط، وأنه اطلع عليه، فاستعنت بالله ثم بالسيد حبيب رحمه الله لما كان مشـرفاً على المكتبة التي ضمت عدداً من المكتبات فما وجدنا للكتاب أثراً.. وبعض كتب هذه المكتبة سرقه ضعفاء النفوس بطريقة سيئة؛ فكانوا في كل يوم يأخذون من الكتاب ملزمة يسهل إخفاؤها وحملها.. وبعضها نُقِل إلى أوروبا بأبخس الأثمان كنسخة الشيخ محمد نصيف من إبطال القياس لابن حزم رحمهما الله تعالى وُجِدت بختمه في مكتبة ( شستربيتي ) في إيرلندة.. ولولا الله ثم كتاب المغني للقاضي عبدالجبار ما عرفنا مذهب الجَبَّائيَّين أبي عليٍّ محمد بن عبدالوهاب بن سلام البصري، وابنه أبي هاشم عبدالسلام، وهما غزيرا التأليف يُولِّفان الموسوعات؛ فأين موسوعاتهما؟.. لا ريب أن شدَّة النزاع في المذاهب في العقيدة يُتْلِف ما يُقْدَر على إتلافه منها إلا أن يكون للمذهب دولة تنشره..وهكذا مَن يَتَتَبَّع كتب الفهارس والبرامج يقرأ عن أسفار ضخمة لا وجود لها اليوم، وليست في يد صاحب الفهرسة، وإنما رواها بالإجازة العامة؛ فإذا وجدها قال: أرويها بسندي عن الشيخ فلان كأن يجيزه برواية كتاب التفسير للإمام أحمد، أو مسند بقي بن مخلد، وهما غير موجودين في عهده.. وبعضهم يروي بسنده كتاب المحلى للإمام ابن حزم، ثم يقول لتلميذه: (وأُجيزه بهذا السند رواية جميع مؤلفات الإمام ابن حزم) مع أن بعض كتبه منا ما أُحْرق، ومنها ما غسل في حياته، ومنها ما فقد بعد وفاته.. ولا تزال الرقابة في بلادنا غافلة عن مراقبة تسرُّب المخطوطات والوثائق من المملكة العربية السعودية، والله المستعان، وعليه الاتكال، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله.
- عفا الله عنه -