ما تحتاجه السعودية بشدة نقلة نوعية قوية في التفكير والإدارة والتطبيق، ومن أجل إحداث هذه النقلة يجري التوسع في البعثات الخارجية والتعليم الجامعي، ولذلك أيضا تأسست جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، التي لا ندري متى تعبر عن نفسها بطريقة تطبيقية ملموسة.
شخصيا، وأتمنى أن أكون مخطئا، أجدني غير مقتنع باستيفاء الشروط للنقلة النوعية بمواصفاتها المذكورة أعلاه فقط، ما دامت العقلية البيروقراطية ببنياتها التقليدية الحالية لا تجد أحدا يهتم بتحديثها. شهودي في عدم التفاؤل تستند إلى وجود الآلاف من ذوي الشهادات الأكاديمية خريجي الخارج والداخل في المناصب العليا ومقاعد الشورى واللجان الاستشارية ومجالس التخطيط، لكن العربة لم تتحرك بعد بما يتناسب مع متطلبات الزمن المتسارع وكميات المبالغ المصروفة عليها.
ما هي الأدلة على هذا الكلام؟. الأدلة نراها في حقيقة أنه حتى الآن لا تخطيط بدون مشاركة خبراء أجانب، ولا إنتاجية بدون مهارات مستقدمة، ولا نجاحات مقنعة في مكافحة الفساد المالي والإداري، علاوة على أن أغلب المشاريع التي يتم تنفيذها بأعلى التكاليف بالعالم يتبين أنها معطوبة ورديئة النوعية منذ الأيام الأولى لدخولها في الخدمة.
جميع هذه الشواهد المزعجة تمت حسب مواصفات ومقاييس وإشراف البيروقراطية السعودية التي يترأسها أكاديميون سعوديون، ولا أحد يستطيع التنصل من هذه الحقيقة.
يوجد أربعة أسباب على الأقل لهذا الخلل البيروقراطي. برمجة البدايات لعقول التلاميذ في التعليم الابتدائي وفق متطلبات العقليات التقليدية المحافظة، والغياب التام للجزء العملي التطبيقي في المسار التعليمي، وتسليم الكوادر الجديدة بما فيها تلك العائدة من الخارج إلى البيروقراطية المتجذرة لتعمل تحت إشرافها وتوجيهها، وأهم من كل ذلك محاولة إرضاء كل العقليات والمصالح في كل خطوة نحو الأمام.
برمجة البدايات لعقول التلاميذ في التعليم الابتدائي ما زالت تعتمد على تعليم ما يعتبره الكبار من الضروريات التي لا غنى عنها بحذافيرها. المعلمون الذين يقومون بهذا الدور كانوا هم أنفسهم حصيلة نهائية لهذا النوع من التعليم. من لم يتفتح عقله منذ الطفولة على التساؤل والسؤال الحر بلا تأنيب أو عقاب، لا يستطيع مساعدة التلاميذ على فتح عقولهم للتفكير المستقل لاحقا. تكتمل الحلقة النمطية بخروج بعض المعلمين عن المنهج الرسمي رغم تواضعه واستغلال الفصول في إدخال برامج ذات أهداف تربوية أخرى.
مسألة الغياب التام للتطبيق العملي التقني في المسار التعليمي بكامله مهزلة تعليمية بحد ذاتها. على سبيل المثال يبدأ الطالب الجامعي دراسة الفيزياء والكيمياء والصيدلة وهو لا يستطيع عمليا تحضير غاز الأكسجين أو ثاني أكسيد الكربون بإحدى الطرق المعروفة منذ ثلاثة قرون. في بلاد أخرى يتم اختيار الطلبة الموهوبين في المراحل الثانوية للمشاركة في الأبحاث العلمية في أرقى الجامعات. مرة أخرى، ولكن في الجامعات نعود لدور المعلم الذي يستنسخ لنا نفسه سنويا بإنتاج عشرات الألوف من الجامعيين على المستوى النظري فقط.
أما بالنسبة لتسليم العائدين من البعثات الخارجية للبيروقراطية العتيدة فهذا من تحصيل الحاصل، وإلا فأين يذهبون؟. القطاع الخاص يفضل عليهم الأجانب في كل المجالات. البيروقراطي العتيد لا يهدأ له بال حتى يحول التابع الجديد إلى نسخة طبق الأصل منه قدر الإمكان. جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية لم تعبر لنا عن مخرجاتها بعد، ولذلك لا تعليق.
إذا ما هي الحلول للخروج من عنق الزجاجة التنموية الضيق؟. بعض الحلول يتطلب إعادة تأهيل معلمي المراحل الابتدائية بطريقة احترافية وتزوديهم بالمهارات التطبيقية، وتنظيف المناهج من كوابح التفكير الحر، واستخدام أكبر مكنسة يمكن الحصول عليها لإبعاد الصدأ البيروقراطي واستبداله بالكوادر الشابة الجديدة، وصرف النظر عن استرضاء العقليات التقليدية في التخطيط للمستقبل.
ليس في هذه الأفكار تهويمات طوباوية أو أضغاث أحلام، لأنها بالضبط ما طبقته الدول التي سبقتنا وخرجت من مضائق التخلف إلى فضاءات التنمية الإنتاجية الواسعة. كان أول من طبقها الميجي في اليابان في منتصف القرن التاسع عشر. إقرأوا ما حصل آنذاك في اليابان مع البعثات الخارجية وللإداريين الفاسدين.
الرياض