في طفولتي كنت أحاول التعرف على ما حولي، تماماً مثل كل الكائنات الصغيرة في عمري، وفي هذا الإطار كنت أرى وعاء غريباً وضخماً يسمونه “غسالة” تعمل بالكهرباء، كانت أمي تحذرني وأشقائي من الاقتراب منه خشية علينا من الأذى، لكنني كنت أمتلئ فضولاً للتعرف عليه ومن بعيد كنت أستشعر رائحة مسحوق الغسيل وأصغي إلى صوت جميل حاولت جاهدة البحث عن وصف له، هو ما بين الهدير والصخب والأنين.
إذاً حين يصافح سمعي هذا الصوت أعلم أن ثمة غسيلا..
أقول ذلك لأن مفردة “غسيل” سكنتني مؤخراً واحتلت ذاكرتي، تبدو لي هذه المفردة موحية وثرية معنوياً ومادياً يمكنك أن تراها في كل المواقف والظروف والأحداث هي دائماً ممتدة بلا حدود،
قد يكون الغسيل للجسد، للرداء وللروح أيضاً..
قرأت مرة قصة بعنوان حبل الغسيل، كانت البطلة تتأمل بيت الجيران المقابل وتعرف تماماً تفاصيل حياتهم اليومية من ملاحظة ما ينشر على حبل الغسيل..
يفيض عالمنا مؤخراً بأحداث عجيبة جعلتنا دائماً في حالة من التحفز والاستعداد لاستقبال العجائب، كأنما قامت امرأة خرقاء بوضع كومة من غسيل دونما تفكير أو تمحيص، فقد وضعت الأردية الفاخرة الثمينة مع الرخيصة القديمة والجديدة دون أن تحسب حساباً لمن هذا الغسيل؟ بل لم يكن يشغلها فيما إذا كان هذا الغسيل سيصبح صالحاً للارتداء مرة أخرى أم لا؟!
فيما يبدو هو غسيل لحي بأكمله حيث يحوي الحي أصنافاً مختلفة من البشر على اختلاف فئاتهم واختلاف عنايتهم بثيابهم ومتى يشعرون بحاجتها إلى غسيل؟
الغسيل بكل الألوان ودونما تصنيف تم وضعه في غسالة كهربائية واحدة بعد إضافة مسحوق جيد خاص بالغسيل تبدو رغوته واضحة..
لكن ما هي النتيجة؟ سيخرج الغسيل وقد تغيرت معالمه واختلطت ألوانه، أصبح الأبيض رمادياً والأزرق مائلاً إلى البنفسجي وربما (ليلكي) جميل، والسماوي الفاتح البهي أصبح مشوباً باللون البرتقالي، ظهرت الملابس غائبة المعالم، هكذا يبدو لي العالم الآن والآن فقط، اختلط فيه الحابل بالنابل، الجيد بالرديء، الساحر بالمسحور، الجاني بالمجني عليه، اللص بالشريف..
يبدو ذلك أكثر شراسة ووضوحاً حين تكون ضمن مهامك كاتباً وباحثاً عن الحقيقة أن تبحث عن مصادر متعددة للمعلومة ولا تكتفي بمصدر واحد.. يبدو الأمر مخيفاً ومثيراً للقلق لكن لا يأس من رحمة الله، يأتي الإيمان ليغسل روحك من كل خوف أو وجل علق بها جرّاء ذلك المد الجارف السيئ الذي يتصاعد هنا وهناك.
سبحانك رب هذا الكون وخالقه، أنت وحدكَ العالمُ بأسرارهِ.
** تفاؤل وأمل على الرغم من الحداد
بين فترة وأخرى يهزني حدث ما، أغضب، أحزن..
تملأ العتمة روحي، ويقيم قلبي حداداً، لا أنسى تلك المشاهد المروّعة لأولئك الأبرياء الذين تمت إبادتهم بالكيماوي في سورية، لا أنسى مشهد تلك المرأة التي تبحث عن صغيرها بين الجثث فتحتضنه في وداع أخير، وأيضاً ذلك الأب المفجوع الذي يحاول إنقاذ طفله الرضيع وهو يحتضر، أخذ يمسح على جسده ويناشده بقوله “يا رب”، منذ ذلك اليوم وقلبي في حداد.