أخشى أن أقول إن مصر تسير حسب المرسوم لها لتلحق بسوريا, بعد أن أثبت الاحتلال المسلح فشله في العراق، وإن لم يستطع تمزيقه - على الأقل - حتى الآن رغم أنه لم يعد أكثر من دولة فاشلة، وربما كان هذا هو المطلوب.
عندما ظهر ما سمي بالربيع العربي نهاية 2010 وبداية 2011م، بحجة صفعة أنثوية تلقاها بائع خضار تونسي، اندهش الكثير من المراقبين، وربما ذُهلوا؛ تونس لم تكن تحمل أعراض غضب شعبي ظاهر على الأقل مثلما كان ظاهراً في مصر، لكن ما إن حُسم الأمر في تونس حتى ظهرت في ميدان التحرير مظاهرة، وتوسعت فجأة لتصبح ثورة أخرى، ثم توالت كأحجار الدومنه لتصل إلى اليمن وليبيا وسوريا. قيل مؤامرة، وقيل يقظة شعوب، لكن ما جرى في أربعاء الرابع عشر من أغسطس في ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة كان بمنزلة صدمة، ارتدت إلى العقل الباطني؛ لتستحضر ما جرى ويجري في سوريا؛ فمظاهرة درعا الصغيرة التي تحولت إلى اعتصام صغير، تمت مواجهته بالرصاص، ثم تضخمت وصارت حرباً مسعورة بين سوريا وسوريا، وكان يصاحب تطور كل مرحلة فيها توجه سياسي وموقف يصعِّد، وآخر يعطل، لكن المحصلة أن أمن واستقرار وقوة سوريا وجيشها صارت ضحايا احتمالات وتوقعات وانتظار وتصنيع مواقف.. فهل تتجه الأحداث بمصر إلى التضحية أيضاً بأمنها واستقرارها وقوة جيشها؟
بعد أربع وعشرين ساعة من أربعاء أغسطس المأساوي تحدث الرئيس الأمريكي مبدياً قلقه وتبرؤه من أحداثها، وليس إلا قليل لتخرج فرنسا وبريطانيا وأستراليا بدعوة لعقد جلسة في مجلس الأمن لبحث ما يجري في مصر، سبقتها تركيا بدوافع مبدئية، لكنها لم تكن ضمن اللعبة الدولية غير المبدئية؛ وبالتالي تم تجاهل دعوتها. على أن اتجاه الأحداث في مصر قبل أربعاء المأساة، وبوقت طويل، كان يشير حتماً للاتجاه الكارثي، ولم يتحرك أحد بشكل جدي، بل كانت وفود تأتي صماء وتذهب مجلجلة دون موقف، فما الذي يمكن أن يقدمه مجلس الأمن أكثر من إظهار موقف يساعد في خلخلة الأحداث؛ إذ إنه بعد أن فاضت الأرواح، وسالت الدماء، لم يعد طرح الحوار أكثر من خداع سياسي لا أكثر. ما يهم الآن حقاً هو إلى أين اتجهت مصر؟ استخدمتُ الماضي بدلاً من المستقبل لأن المسار في اعتقادي قد انطلق فعلاً.
إذا كانت الأحداث في مصر بعد 3 يوليو وضعتها على قضبان القطار السوري، وكانت المواقف السياسية الإقليمية والدولية حولها - حتى وإن تبدلت مواقع بعضها - تكاد تتطابق مع تلك التي رأيناها في بداية أحداث سوريا، فإن الخشية حقاً أن نكون أمام صورة مكررة. قلت في مقال سابق، وأكرر، إن الشك مفتاح اليقين، ومن لا يشك لا يفكر، وإلا كيف يتحول الاختلاف في الرأي بين العقول المسلحة بالأيديولوجيات والأفكار إلى صراع دموي على حساب وطن أحب واحتضن الجميع رغم كل اختلافاتهم؟ هو بالفهم النفسي غرور وكِبر لنفس رأت أنها بقليل من المعرفة قد تجاوزت الآخر، وأصبحت أكثر وعياً منه. أما بالفهم السياسي فهو عطش وفقر ذهني للسلطة، مرض قديم لم يعد يظهر في المجتمعات الديمقراطية المتحضرة بعد أن تمت تجربته، وعانت من نتائجه، ثم تخلصت منه أخيراً عبر التسليم بصناديق الاقتراع. والموجع حقاً أن تسعى النخب العربية - وهي راغبة في أخذ أوطانها نحو التقدم - إلى أن تصر على إعادة التجربة المجربة، لكن هل فعلاً هذه النخب السياسية هي التي تفكر وتقرر؟ أشك في هذا، وإلا فإن سوريا ما زالت في أوج سخونتها، ويتعظ من جحيمها الأعمى قبل المبصر. أما القول إن هذا البلد غير ذاك البلد فهو قول ربما انتهت صلاحيته.
الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد أنهيا جيش العراق الوطني وجيش سوريا، وها هو الجيش المصري يدخل بشكل لا يصدَّق في تأزم صعب، وكأنه يسير على قضبان سكة حديد ليس فيها مخارج، وليس لديه مكابح، ولم تكن مصر تشتكي من خليط اجتماعي غير متجانس، بل إن التجانس الاجتماعي هو أحد أهم خصائص القوة فيها، لو لم تظهر جولة الانتخابات الثانية بين الرئيس محمد مرسي والعسكري أحمد شفيق فرصة العبث السانحة للمتربصين بظهور حيوية اللعب في ميدان الهوية التي ظهرت منقسمة بين التيار الإسلامي والتيار العلماني بشكل متقارب في النتيجة، وها هي اليوم تفعل فعلتها بكل أسف.
لا حل - في اعتقادي - إلا بإقرار واعتراف بالخطأ، وعفو شامل وتام، والبدء في صفحة جديدة.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni