|
وفي أفغانستان كثرت الرَّؤَى بأشياء كثيرة وانتصارات، ولم يحصل من ذلك شيء، وقد كنت أقول للبعض: إن تحزين الشَّيطان بالرُّؤْيَا قد يكون بمثل هذه الرؤى، إِذْ يتعلّق النَّاس بها ويعلقون كل آمالهم عليها، وبعد ذلك لا يرون شيئًا، فيقع الحزن؛ بل والشك في نفوسهم، وهذا من أعظم ما يفرح به عدو الله إبليس، نعوذ بالله منه ومن وساوسه.
فرق بين تحليل الأحداث والاعتماد على الرؤى قد يتحدث البعْض عن توقعات المستقبل، ولا أحد يحجر على النَّاس توقعهم وتحليلهم للأحداث، ولكن حينما يجزم البعْض بذلك مستندًا إلى الرَّؤَى فهنا يكمن الخطر، وهذا ما يُنكر من وضعٍ للرُّؤْيَا في غير موضعها.
هذا المسلك مشتمل على محذورين: أحدهما: الاعتماد على الرؤى. والثاني: الجزم بالحدث المتوقع. وكلاهما محذور حتَّى لو انفرد بنفسه فكيف إذا اجتمعا؟! ولذا فمن اعتمد على الرؤى، وإن لم يجزم لم يسلم من الخطأ، ومن جزم بتوقعاته وتحليلاته للمستقبل، وإن لم يعتمد على الرَّؤَى فقد جانب الصَّوَاب أيضًا.
ويضاف إلى هذا أن توقعات المستقبل التي لا تستند إلى معطيات مدروسة من الواقع، وسَبْر للأحداث المتعاقبة، ودراية بإستراتيجيات الدول وأهدافها ونحو ذلك تصبح تلك التوقعات ضربًا من التخرص والرجم بالغيب ينأى المسلم بنفسه عنها، وهي لا تفيد مسار الأمة شيئًا حين تخلو من تلك المقوِّمات. نقول لِمَنْ يتكلف البحث عن المهدي أو عن السفياني أو عن الرَّجل القحطاني الذي يسوق النَّاس بعصاه، هل هذا التكلف من أجل نصرته؟ إن المهدي يقوم بهذا الدين كما يقوم به غيره من المصلحين، ولكنَّه سيكون أصلح منهم وأتقى لله، فيجري الله على يديه من الخير ما لم يكن لِمَنْ قبله، وعلى هذا فإنَّ واجب النصرة لا يختص بالمهدي؛ بل بِكلِّ مصلح قائم لله بالحقِّ فلا حاجة للتكلف في البحث عنه؛ بل المسلم الذي ينصر المصلحين ويُؤيِّدهم سيكون أول النَّاس نصرةً للمهدي إن أدركه حتَّى لو لم يعلم بذلك إلا فيما بعد.
وتأمَّل في أحاديث المهدي، أو نزول عيسى بن مريم - عليه السَّلام - لتجد أن من أكرمهم الله فصاروا جندًا لهم لا يركنون إلى ما ورد في الأحاديث فيها، وهم بلا شكَّ على علم بها مع أن تلك الأحاديث واضحة الدِّلالة في أن العاقبة والنصر والتمكين للمهدي، وكذلك لعيسى بن مريم - عليه السَّلام -، حين ينزل بعده أو في زمنه كما صرحت بذلك بعض الروايات. ولا يستريب مسلم أن من أدرك المهدي أو عيسى عليه السَّلام فقعد عن نصرتهما اتكالاً على أنَّهما سينصران كما في الأحاديث فذلك الضلال بعينه. ونزيد قضية المهدي إيضاحًا فنقول: لم يأت في الأحاديث أنَّه يستدلّ على المهدي بالرَّؤَى والمنامات ولا أنَّها تسبقه، ولم يأت في الأحاديث التحذير من الالتباس في أمره كما جاء ذلك في الدَّجال؛ بل الظاهر أن المهدي إذا خرج عرفه المسلمون دون التباس.
ومن تأمَّل الأحاديث تبيّن له أن المهدي لا يبتدع أمرًا جديدًا يحتاج فيه إلى إيمان النَّاس به، بل إنما قائد مصلح كغيره من المصلحين كما تقدم. فكما أن كل مصلح قائم لله بالحقِّ تجب إعانته ما دام عمله وفق هدي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فكذلك المهدي حين يقوم فإنما يقوم معه من كأن يتمثَّل قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على البرِّ وَالتَّقوى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وعلى هذا فلا حاجة إلى الترقّب والتطلَّع والبحث عن المهدي وعن قُرْب زمنه؛ بل يجب الاشتغال بما أمر الله تعالى به من العلم النَّافع والعمل الصالح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، وإعانة كل داع إلى الخير، وآمر بالمعروف، وناهٍ عن المنكر، ومجاهد في سبيل الله. فمن فعل ذلك فهو حريّ أن يكون من أول أنصار المهدي أن أدرك زمنه، وإن لم يدرك زمنه فقد فعل ما ينبغي فعله من المسلم الذي يعمل لدين الله ويرجو ثواب الله.
- إن من خفيت عليه علامة من علامات الساعة، أو لم يتيقن أن هذا الحدث هو الذي أخبر به النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإن كان في حقيقة الأمر كذلك فلا لوم عليه، وليس الإيمان بذلك على الواقع من مستلزمات الإيمان أو أركانه أو شروطه، وإنما الواجب هو الإيمان بما أخبر به النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من ذلك، وأما معرفته في واقع الأمر فقد يمنع منه موانع كثيرة لا يلام المسلم فيها ما دام ذلك لم ينشأ عن عدم تصديق بالنصوص أو شك فيها.
وختامًا فإنَّ الجزم بأن كذا هو الوارد في الحديث من أحاديث الفتن وعلامات الساعة، ربما حمل البعْض على الشك بها، أو حملهم على نوع من السُّخْرية، ومثل ذلك الاعتماد على الرؤى. وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وبيان ذلك أن هذا الجزم سيتبيّن عاجلاً في اختبار دقيق على صفحة الواقع، فإذا لم يقع ما جزم به من تكلم في أحاديث الفتن، وما جزم به المعبر، فهنا ستجد المشككين في أصل الأحاديث والساخرين بشيء منها، أو بالرَّؤَى جملةً وتفصيلاً، وإنما فتح هذا الباب من جزم.
- أستاد الفقه بجامعة القصبم