للمجتمعات نماء كنماء النباتات، وسعادة كسعادة البشر، فيفيدها ويعلي من قدرها كل أمر حسن، ويؤثر فيها كل معاكس. وما يرفع من قدر هذه المجتمعات إلا أعمال وطبائع أهلها.
فالأول: ينفعها.. والثاني: يضر بها.
وحسن الخلق له مكانة عالية، في نماء المجتمعات وسعادتها، لأنه يدعو إلى التآلف والترابط، ويحث على الأعمال الفاضلة، التي هي جزء من تعاليم الإسلام، فهو يشد القلوب، ووسيلة للترابط والتوادد، ويحث على الأعمال التي فيها المكارم، لأن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، كما جاء في الأثر.
إذ يأسر النفوس ويربطها بوشائج التقارب، ويدعو إلى التسامح والتحمل.
وحسن الخلق يتباين مع الحسد، الذي يقوض المجتمعات، ويهدم بنهاءها تدريجياً، ويحيلها ركاماً بتأثيراته التي تقضي على أواصر المحبة.
فحسن الخلق من خصاله الدعوة للمحبة وترابط المجتمعات، أما الحسد فهو مبني على الكراهية، والحقد على الآخرين، وتمني زول النعمة عنهم، لأن من ركائزه التي بني عليها محبة نشر الفوضى في المجتمع.
ولأهمية حسن الخلق في سعادة المجتمعات بنشر التناصح والمحبة بين الجميع، لذا حثت عليه تعاليم الإسلام، فقد قال رسول الله لأصحابه، لما أسروا “سفّانة” بنت حاتم الطائي، خلوا عنها فإن أباها يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق، وبهذا وحسن التعامل معها، ذهبت للشام، ولامت أخاها، ومدحت له أخلاق الرسول فرجعت معه وأسلما.. وفي رواية جاءت مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
وقد مدح الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالخلق العالي، فهو أفضل البشرية، وأكملهم خلقاً وأحسنهم تأدباً وتواضعاً، كما ورد في سورة القلم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ الآية (4)، وقالت عنه زوجته عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن، كما أن أباها أبو بكر الصديق الذي أعجب بأخلاق القرآن ومكارمه، قال: من أدبك يا رسول الله: قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي. وما سوف نمرّ به لماماً في هذا الحيز، إنما هو بعض من مكانة حسن الخلق وأثره الاجتماعي في تأصيل هذه الخصلة بالدعوة إلى دين الله، حيث يدفع إلى حسن الحديث، وطيب التعامل، ومخاطبة العقول بما هو محسوس إليها، ومحبب عند جميع المجتمعات، بالتسامح وتمكين العلاقات.
لأن من تأدب بحسن الخلق ينعكس على طبائعه: صدقاً وأمانة، ورفقاً وتسامحاً، ومخاطبة العقول بما هو محبب إليها، وتحملاً لما يتبادله مع الآخرين، انطلاقاً من مفهوم هذه الآية خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) -الأعراف. وهذا مما يؤدي دوراً إيجابياً ترتاح إليه النفوس، لأن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.. (جزء من حديث رواه البخاري)، ولأن منهج الإسلام في دعوته لحسن الخلق، من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعو له حتى تروا أنكم قد كافأتموه، وتقول الثاني: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقاه بوجه طلق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، أعطاه الله جوامع الكلم، فكانت كلماته وأحاديثه ومعاملاته، كلها دعوة إلى حسن الخلق. وعصرنا الذي نعيش فيه، لا يؤمن الناس فيه، ولا يقتنعون فيه إلا بما هو محسوس وظاهر تراه في التعامل، وقد أكد ذلك منذ قرون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنكم لن تسعوا الناس بأرزاقكم، ولكن يسعه منكم بسط الوجه وحسن الخلق”.
وهذه قاعدة رصينة، يضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأمته في حسن العلاقات الاجتماعية، قبل أن تتحدث في ذلك الأنظمة الإدارية، أو تقننها نظريات علم الاجتماع.
وما ذلك إلا أن المحسوس في حياة الناس، حسبما يتراءى أمامهم، من نماذج بالمعهود عندهم، وبالمقارنة في الوضوح والمنهج والسلوك والنتائج، حيث تبرز بالمقارنة مع حصيلة حسن الخلق.
ورغم أن حسن الخلق، ودقائق تأثيراته، يحتاج إلى دراسة تحليلية، بالنتيجة، كما يلمس بالجلسات والعقاقير في علم النفس الحديث في إيجابية تلك الوسائل، إلا أنه بمنظور الإسلام ونتائجه، والدعوة إليه يختلف عن نظريات علم النفس، واهتمامات علم الاجتماع والإدارة، لأن مطلبه غير مطلبهما، والمنبع الذي يستقي منه، غير المنبع الذي يستمدان منه.
وبمقارنة المعقول بالمنقول، فإن النتيجة في المنظور الإسلامي تعد حقيقة لا جدال فيها، وأما العلوم الإنسانية الأخرى، علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الإدارية، تعد نتائجها “نظرية”، والفرق بين الحقيقة والنظرية، أن الحقيقة ثابتة والنطرية قابلة للأخذ والرد.
فحسن الخلق يوجه إليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونتائج علمي النفس والاجتماع يدعو إليها، ويقنن علاجها علماء مادّيون، لا يؤمنون بالإسلام ولا بأثره في طمأنة القلوب، بدليل اختلاف الأثر الذي أرادوه علاجاً من شخص إلى شخص، وينتقض بعضهم نظريات بعض، وصدق الله العظيم في قوله الكريم: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82)- النساء.
وهذه الدراسة تستكمل بها حلقات الموضوع، وما يحيط به، ولا يمكن تأديتها، إلا من كان عنده حصيلتان: حصيلة شرعية إسلامية جيدة، ليستظهر بها الدارس النصوص، ويدرك من ورائها تأثيرها في الآخرين مخاطبة وعملاً، وأخذاً وعطاء.
وحصيلة علمية وعملية حديثة بإدراك الأثر، عند المتلقين، يدرك الباحث الجيد من الأمور المفيدة ما لا يدركه الإنسان العادي.. فالباحث والمتعمق في النتيجة، يقارن الحسنات المفيدة: للفرد والجماعة بما تحققه شريعة الإسلام التي تتجذر في النفوس، حيث تبين فضله وشموليته، فتكتسب النفس بذلك قدرة على أثر ما جاء في تعاليم الإسلام، حسب النص الشرعي، تتمايز بها، عما وقر في بعض النفوس من معتقدات أخرى، مناهضة للنص الشرعي، وما فيه من سماحة ومخاطبة للأحاسيس، لأن ما جاء في مصدري الإسلام: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، يخاطبان الوجدان، ومقنعان لذوي الأحاسيس المتعطشة للمورد العذب.
وهذا ما يعد عرفاً: الدراسة المقارنة، ونقصد بالمقارنة: تغلب تعاليم الإسلام لأنها الأساس الذي يطلبه الله من عباده، ولا يريد سبحانه إلا الخير والمصلحة الظاهرة... أما ما يكون أمراً تردد فيه الإنسان، فإن دور المتردد سؤال أهل العلم والدراية، ليعينوه على المنهج الذي سعادته في الاتجاه إليه، استئناساً بالقول الكريم في محكم التنزيل: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) -النحل.
وقد منح الله الإنسان عقلاً، يوازن به ما يعرض عليه، والتحلي بحسن الخلق سمة طيبة، تجعل صاحب العقل المتبصر الذي يأخذ كل ما يلقى عليه، بنظرة متأصلة، لأن التحلي بحسن الخلق، والتمسك به طبعاً لا تطبّعاً، يعطي تمثيلاً عملياً، عن دوره في كسب النفوس، ودوراً إيجابياً عن أثره في تغيير الاتجاه، إلى ما هو أحسن، وما جاء عن الله، وبلغة رسوله الكريم، لا شك أنه هو الأحسن.
فهذا الأشعث بن قيس يوصي بنيه، بأمور هي من خصال حسن الخلق، التي تعطي مدلولاً جيداً في تكوين حسن الخلق، التي لها أثر في تكوين الشخصية المستقلة المؤثرة، فيقول: يا بني ذلّوا في أعراضكم، وانخدعوا في أموالكم، ولتخفّ بطونكم من أموال الناس، وظهوركم من دمائهم، فإن لكل امرئ منكم تَبِعَة، وإياكم وما يُعتذر منه، ويُستحى، فإنما يُعْتَذرُ من ذنب، ويُستحى من القبيح، وأصلحوا أموالكم عند جفوة السلطان، وتغيّر الزمان، وكفوّا عن حاجة أو مسألة، فإنه كفى بالردّ منعاً، وأجملوا في الطلب، حتى يوافق الرزق قدراً.
وهذه الأمور التي يريدها الأشعث لبنيه، هي نموذج من النماذج العملية المستمدة من قاعدة الإسلام المكينة، في تهذيب النفوس، وتكوين الشخصية، وكل شيء يلمسه الناس واقعياً ومشاهداً أثره، فما هو إلا ثمرة عاجلة لحسن الخلق، ونتيجة من فوائده في الدعوة وميدانها الفسيح، وباب من أبواب الترغيب في الإسلام، الذي طبع أبناؤه بهذه الخصال، بعد أن بدلهم من حال إلى حال، وزجر نفوسهم عن التمادي في مقابلة الإساءة بالإساءة، وقد قيل لسفيان بن عيينة: قد استنبطتَ من القرآن شيئاً كل شيء، فأين المروءة فيه.. قال في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)- الأعراف.
ففيه المروءة، وحسن الآداب، ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله تعالى: خذ العفو صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، ,الرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: وأمر بالعُرف صِلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغضّ البصر، والاستعداد لدار القرار. ودخل في قوله: وأعرض عن الجاهلين، الحضّ على التخلّق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزّه عن منازعة السفهاء، ومساوات الجهلة والأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة (ينظر ما قاله ابن كثير في تفسيره لهذه الآية).
من هذا المفهوم الذي أدركه علماء الإسلام الأوائل، استطاعوا أن يؤثروا في أمم الأرض، بأعمالهم وأخلاقهم، وأدخلو الإسلام في شرق وجنوب آسيا، بما بثوه في الأمم، من خصال الإسلام، في التعامل والصدق والقدوة الحسنة، وحسن التعامل، فأحبّت تلك الخصال ديناً هذه طباع أهله، وما تأصل في أعمالهم خصال حميدة، هي من تعليم دينهم، فتأثروا بهم، علماً بأن تلك الديار، لم تطأها جيوش الإسلام للدعوة.
ويقرّب الأمر ما هو حاصل الآن في اليابان، ودخولهم فيه، إذ قبل 20 سنة لا يوجد إلا مسجد، والآن هي بالعشرات والمئات وتزداد، ويتزايد عددهم بالدخول في دين الله عن رغبة، وتخلقوا بأخلاقه، وما يدعوهم إليه. فالقدوة الحسنة، والرفق والصدق، حقَّقا الشيء الكثير، لأن جماع الأمر في حسن الخُلق.
mshuwaier@hotmail.com