عندي أن تفويض الصلاحيات هــو النمط الإداري الأمثل في عالم البشر، يتفق أولاً ويتلاءم مع الفطرة التي خلق الله الإنسان عليها، ويدلّل عليه ثانياً النص الشـــرعي الصريح، ويتسق ثالثاً مع منطق العقل الصحيح، وهو رابعاً الواقع الذي نعيشه أو على الأقل يعيشه جلّنا في حياته الخاصة الاقتصادية منها والتربوية والاجتماعية و... لا الوظيفية!
لقد جعل الله مدارك وقدرات الإنسان محدودة وعاجزة ولذا ليس بمقدور الفرد أن يدير مملكته وحده حتى ولو صغرت، وكلما كبرت واتسعت خريطة عالمه، وتعددت المهام وتنوَّعت، وترهل الهيكل الإداري و... كان لازماً عليه التفويض الكامل للصلاحيات هذا عقلاً، أما عن الواقع المعيش فهو عندي شاهد ودليل قوي على هذا السلوك الإداري الصحيح وإن كان التطبيق الذي أورده هنا خاطئاً وخطيراً فنحن في محيطنا الأسري مثلاً نفوِّض الصلاحيات بشكل طبيعي، ونحاسب إن كنا مؤهلين لذلك، وقادرين على المتابعة والرصد، فرب الأسرة في مجتمعنا السعودي - الذي منّ الله عليه بوافر الخيرات - يفوّض السائق الأجنبي الذي جاء من بيئة غالباً مفتوحة، وينحدر من طبقة معدمة، وليس لديه القيم والسلوكيات الاجتماعية التي تحكم حياتنا وعلاقاتنا في دوائر انتماءاتنا المختلفة، يفوّضه ليتولى إيصال زوجته وأولاده لمدارسهم، وقد يسند له مهمة شراء حاجيات البيت الأساسية. والمرأة تفوّض الخادمة - التي ليست بأحسن حالاً من السائق- تفويضاً كاملاً في مسائل مهمة وحساسة فهي من يقوم برعاية صغارها، وتنظيف غرفتها وغرف أولادها، ليس هذا فحسب، بل هي من يجهز الموائد الثلاث “الإفطار، والغداء، والعشاء” لرب الأسرة ومن يعيش معهما تحت سقف واحد، والعجيب أن بعضاً من هؤلاء الذين يفوَّضون في أهم الأمور وأصعبها وأثمنها في دنيا الأحياء مركزيون حتى النخع في إدارتهم لمرافق الدولة المختلفة، الأمر الذي ولّد تعطيلاً للمصالح، وإفساداً للعلاقات الاجتماعية في بيئة العمل، وانعدماً للثقة بين هذا الإداري المركزي والعاملين معه الذين يشعرون بالغربة النفسية، وعدم انتماء حقيقي لمؤسساتهم الوظيفية، ولو فتشت لوجدت أن في مثل هذه البيئة المركزية القاتلة تولّد كثير من الأمراض الإدارية والمجتمعية المؤذنة بخراب الديار وفساد حال العباد، إذ غالباً ما تغيب عدالة التوزيع، وتنتشر الشائعات، ويكثر القيل والقال، وتعشعش البروقراطية في نظامنا الإداري، وتتسع الهوة بين الطبقات الاجتماعية، وقد يعزّز هذا وذاك على المدى الطويل ضعف الشعور بالانتماء خاصة لدى شريحة الدارسين في بيئات متحضِّرة تتبع في إدارة مصالح الناس أحدث النظريات العلمية التي تعتمد بشكل كامل على التفويض المبني على ثلاث ركائز مهمة “اختيار الأكفاء، منحه الثقة الكاملة، المتابعة والمحاسبة من خلال برامج دقيقة تضمن حصول قائد فريق العمل على تغذية راعة صحيحة”.
إن مشكلة بلدان العالم الثالث وبخاصة النفطية منها في الأساس “إدارية”، فرأس المال موجود، والموارد البشرية قد تكون متوفرة وإذا تعذَّر إعدادها وتهيئتها ومن ثم الاستفادة الكاملة منها في الوقت الحالي فيمكن الاستعانة بالكفاءات والعقول المهاجرة من أي مكان في العالم حتى يحين وقت جهازية الوطني بالشكل الصحيح.
إن المرحلة التنموية التي تمر بها المملكة، والطفرة النفطية التي تعيشها تحتاج إلى هذا النوع من الإدارة طبعاً بشروطها وتراتبيتها وهرميتها التي يعرف معالمها أهل الاختصاص، أما أن يبقى الحال على ما هو عليه الآن فستظل المشاريع المتعثّرة تتزايد بشكل كبير وسريع “متوالية هندسية”، ويظل القائمون على أمر المراقبة والمتابعة والرصد والمحاسبة ومكافحة الفساد في عراك ومجاهدة مع مسؤولي الدولة الكبار منهم قبل الصغار، ولن يحصل المواطن في مناطق الأطراف خاصة على الخدمات التي أمر بها له ولي الأمر وعدها النظام حقاً من حقوقه التي يجب توفيرها له جراء حمله الجنسية السعودية وعيشه على أرض الوطن الطاهر المبارك المملكة العربية السعودية، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.