لم تعد الضبابية في الرأي لها مكان في عقل الإنسان العربي، ولم يعد أمام الجميع إلا حسم أمرهم في قضية العصر في المجتمعات العربية، في الخلاف الذي تدور رحاه بين التيارات الإسلامية التي تتعامل مع الاجتهادات الشخصية والفهم الفقهي للشريعة الإسلامية في العصر الوسيط على أنها حقيقة شمولية ومطلقة وغيرقابلة للاختلاف وأن تُفرض بالإكراه..
وبين التيارات المدنية التي تعترف أن الاختلاف حق شرعي، وتدعو إلى كتابة دساتير تضمن ذلك الحق للجميع بدون استثناء، وأن تكون الإدارة السياسية والقضائية مدنية، لا تحتكرها طائفة أو فئة أو طبقة، ولكن لابد من نقطة التقاء، وإذا لم يتوصلا إلى تسوية في هذا الاختلاف، فستكون عاقبة الأمورأسوأ بكثير مما نتوقعه.
كان سيناريو الثورات العربية متشابهاً إلى حد كبير، فالتيارات المتضادة في برامجها وفكرها اتحدت في ميادين الثورة ضد الاستبداد، لكنها ما أن بدأت مرحلة التأسيس والدستور والديموقراطية ظهرت بوادر الأزمة بين التيارات الإسلامية والمدنية بمختلف اتجاهاتها،كان ذلك المشهد حاضراً في مصر، ونقلته وسائل الإعلام العربية على الهواء مباشراً، وتبدو في الأفق مظاهر مشابهة في تونس وليبيا، وصاحبها عنف دموي.
اتخذ المشهد الثوري في سوريا مساراً آخر له خصوصية بالشرق العربي، فالصراع بين التيارين بدأ مبكراً في مسيرة الكفاح ضد الحزب المستبد بالحكم في سوريا، وقد استبق العالم بمختلف اتجاهاته نهاية المعركة في سوريا، فشارك الجميع من مختلف الطوائف والاتجاهات السياسية في فصول الثورة السورية من أجل إنهائها لمصلحته السياسية..
كذلك تنازعت التيارات السنية المتطرفة والتيارات الشيعية المسيسة فيما بينها، ولا يمكن التنبؤ بما سيحصل في مستقبل سوريا، لكن حرباً أهلية قد تندلع بعد سقوط النظام بين التيارات الإسلامية الجهادية من ناحية، وبين التيارات المدنية والليبرالية في ناحية أخرى، وهذا السيناريو مرشح لدرجة كبيرة.
التأثير السوري وصل إلى دول الخليج العربي، وقد شهدنا ظهورمشايخ وفعاليات جهادية تنتصر لفصائل الجهاد في سوريا، وتحاول أن تختزل القتال في سوريا على أنه جهاد ضد المبتدعة والكفار، وتبرز فتاوى تنص على عدم شرعية القتال تحت لواء الجيش الحُرّ، والذي تنطوي تحت لوائه طوائف أخرى، وتضع مختلف التيارات الوطنية والليبرالية والقومية والطوائف المخالفة لها في خانة العملاء لأمريكا.
في حين تساند التيارات الثقافية وبعض الشخصيات المدنية والسياسية الثورة السورية من أجل فكرة التحرر من الاستبداد والتبعية غير العربية، وتبدي قلقها من تصاعد نبرة الإسلام الجهادي، وهو ما يعني أن الخلاف لم يعد كامناً في الباطن، ولم يكتف بوصوله إلى ميادين الثورة في بلدان الربيع العربي، كما يطلق عليها، لكن وصل إلى عقل الإنسان العربي خارج سوريا، وأصبح الاختلاف فيه معلناً في وسائل الإعلام.
المشهد الثوري في سوريا لا يزال غامضاً، وكان في استدعاء رمزية القبيلة عودة للماضي، وإيقاظاً للانتماء القبلي في سوريا من أجل إيقاف الفكر الديني المتطرف، والذي ترفضه القبيلة العربية منذ القدم، كما تمثل في رفض ولاية الخوارج والشيعة في صدر الإسلام، وفي ممانعة الشعوب لحاكمية التيارات الأصولية السنية والشيعية في الزمن المعاصر.
في انتخاب أحمد الجربا رئيساً للائتلاف السوري المعارض إعادة لذلك السيناريو العربي القديم في مقاومة التطرف الديني، والذي أعلن تأسيس جيش وطني للقضاء على أمراء الحرب والدويلات الخارجة عن المدنية، وقد يعني ما حدث في اتجاه آخر أن عرب الشرق لم يصلوا بعد إلى مرحلة المجتمعات المدنية، وقد تنجح القبلية في إنقاذ سوريا من استبداد التيارات الدينية المتطرفة في بلاد الشام العربية كما فعلت في عام الجماعة في القرن الهجري الأول.